صحافيو السجادة الحمراء: الولاء أولاً

20 مارس 2016
+ الخط -
أثارت صحافية "اليوم السابع" المصرية، شيماء عبد العزيز، في سؤالها الغبي، ولغتها الإنجليزية الركيكة، لنجم هوليوود، ليوناردو دي كابريو، في حفل توزيع جوائز الأوسكار، مهرجاناً من السخرية والاحتجاج على ما سببته من ضرر لـ"صورة" بلادها في الخارج. ليس هذا المقال بصدد الزيادة من السخرية والنقد الذي نالته "شيموز"، بل في معرض الدفاع عنها باعتبارها الحلقة الأضعف، أو غير المؤثرة بتاتاً في مشهدٍ من الفساد، ضرب الجسم الصحافي، وبات أبناء المهنة يتعايشون معه وكأنه أمر طبيعي.
حصلت شيماء عبد المنعم (شيموز) على فرصة السفر إلى تلك البلاد البعيدة، لتغطية حفل توزيع جوائز الأوسكار بكل بهائه وسط نجوم هوليوود، لا من باب اختصاصها بشؤون السينما، بل مكافأة لها على رضا المسؤول عنها. أول ما قامت به لدى وصولها كان تصوير نفسها مع السجادة الحمراء، لتنشر المجلة الإلكترونية "خبراً" عن وصول المراسلة إلى السجادة الحمراء. أتبعته الصحافية بـ "تحقيق" من متحف الشمع، حيث التقطت لنفسها صورا إلى جانب تماثيل الشمع للنجوم، ونشرتها المجلة الإلكترونية على أنها متابعة لفعاليات الحدث. رفعت الصحافية صوتها عالياً في المؤتمر الصحافي للنجم ديكابريو، بعد فوزه بجائزة الأوسكار، لتصف نفسها بما هي عليه بالفعل: إنها الصحافية التي وصلت إلى السجادة الحمراء. قد لا تكون الصحافية المصرية الأولى التي نالت هذا المجد، إلا أن تعريفها عن نفسها يختصر، إلى حد كبير، مهمتها الفعلية، أي الوصول إلى السجادة. رد مسؤول الموقع على انتقادات واسعة لإرسال صحافية تفتقد الكفاءة لتغطية الحدث بأن وعدها بتغطية مزيد من الأحداث الدولية.
تشكل "شيموز" نموذجا عفوياً أقل خبثاً من كثيرين، أتقنوا قبلها الوصول إلى السجادات الحمراء، من دون خبرة مهنية، بل بفضل خبرة متقدمة في نسج الولاءات الداخلية في قاعات التحرير. لا يرتكب هؤلاء هفوات "شيموز"، فهم غالباً يرطنون باللغة الإنجليزية، ويحرصون على لباقة المظهر والأداء الذي يغلف بأناقةٍ فجاجة الخواء المهني. لا يثير هؤلاء زوبعة من السخرية على أدائهم، بل على العكس، تقدمهم مؤسساتهم الصحافية على أنهم "وجه السّحارة" بين صحافييها. الأمثلة كثيرة. مثلاً: ينتزع صحافي، طري العود في العمل الصحافي، منصب رئيس تحرير في صحيفة واسعة الانتشار، بفضل ولائه لمالك الجريدة. يطور على الفور "عدة" رئيس التحرير، وهي البذلة الأنيقة والسيجار، والأهم من هذا كله العبوس الضروري لتأكيد "وهرة" المسؤول. تحظى إحدى الصحافيات من أصحاب الولاء بحظوة التحول إلى مراسلة عالمية للصحيفة، وهي لا تزال في خطواتها الأولى في عالم مهنة المتاعب. تقتصر متاعب المراسلة على القفز بين طائرةٍ وأخرى، لتلبية الدعوات إلى المؤتمرات، وغيرها من النشاطات التي ليس لغيرها من الزملاء تغطيتها. تصبح الصحافية عابرة للقارات، ترطن بالإنجليزية في المنتديات متسلحة بـ "التايور" الكلاسيكي، وقدرة لا سابق لها للتخصص في كل الملفات بدون استثناء. لا يخطر على بال أحدٍ من الزملاء القلقين على وظائفهم طرح السؤال عن سر "موهبة" الصحافية، ولا يهتمون أساساً بعمل صحافي، يتجاوز الحفاظ على مقاعدهم في قاعة التحرير. أما الاعتراض فهو منبوذ بطبيعة الحالة، باعتباره انتهاكاً وقحاً لأصول "الولاء" للصحيفة.
ليس هذا كاريكاتوراً، بل وصفاً واقعياً لحالةٍ قد تكون نموذجاً مكرّراً في عدد كبير من وسائل
الإعلام العربية، حتى لا نقول غالبيتها، حيث باتت قيمة "الولاء" للإدارة والمالك، والقدرة على الانسجام معها، ونسج العلاقات ضمنها ومن خلالها، أهم بكثير من قيمٍ اعتقدنا أنها أساسية للنجاح والتطور المهني في العمل الصحافي: الاستقلالية، الحس النقدي، والقدرة على المبادرة. من نموذج الصحافي المشاكس، صاحب الحس النقدي، والفضول الذي يدفعه إلى سبر أغوار المخفي، انتقلنا إلى صورة الصحافي المتأنق في لباسه وكلامه، ذي القدرة على التعبير عن ولائه بأشكال مبتكرة، وهو (هي) على عكس النموذج الأول، لا يسعى إلى إزعاج أحد على الإطلاق، ناهيك عن إدارة المؤسسة. أحد الأمثلة المضحكة المبكية، تنظيم صحافيي مؤسسة إعلامية لم يتقاضوا أجورهم شهوراً حفل استقبال حاشد لممول المؤسسة من أجل .. شكره.
تتمدد شبكات الولاء هذه من داخل قاعات التحرير إلى خارجها، حيث يتحول الصحافيون المطيعون إلى موظفي علاقات عامة لدى رجال السياسة أو الأمن. من نموذج الصحافي الذي تربطه "صداقة" مع رجل السياسة إلى البوق الإعلامي، والمخبر لدى أجهزة الأمن. هل أحدثت صدمةً تصريحات الإعلامي المصري، وائل الأبراشي، بأنه فخور بتلقي تعليمات للدفاع عن الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، بعد تسريبٍ لمكالماتٍ هاتفيةٍ لمكتب السيسي عندما كان وزيراً للدفاع تكشف تعليمات للإعلاميين بدعم حملة السيسي الانتخابية، لا بل تصوير انصياعه للتعليمات "ولاءً" للوطن؟ هل أثارت تصريحات الإعلامي المصري، تامر أمين، وفيها يقول إنه يسلّم ضيوفه إلى الأمن، بعد أن يجري حوارات معهم، أي زوبعة سخرية أو احتجاج؟
تتحدّث ندوات الإصلاح الإعلامي عن ضرورة تغيير القوانين والتنظيمات المرعية وتدريب الصحافيين، وتلك أمور أساسية. ولكن، كيف يمكن لهذا الإصلاح أن يتجاوز الحائط المنيع الذي ترفعه "نخبة" الإعلاميين في وجه التغيير، المتحكّمة بالقرار التحريري، وآليات الإنتاج في قاعات التحرير، والعاملة بدأبٍ على ترسيخ نموذج الصحافي المطيع اللزج الخفيف في وجه نموذج الصحافي المشاكس الناقد؟ هنا قلب المسألة. بعد الرد على هذا السؤال، اسخروا من "شيموز".
A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.