صانعةُ الكروشيه القرويّة

10 سبتمبر 2015
كروشيه (مواقع التواصل)
+ الخط -
المعلّم الذي أغوتْهُ تلميذته، كانَ يلملم كفّيهِ من على وجهها القرويّ، وكانَ يحملُ عمرينِ فوقَ عمرها ويضعهما بين عينيها ليستطيعَ تقبيلها. لم يكنْ هناكَ أحد، وكأنّه درسٌ خصوصيٌّ في الحبّ في ساعةٍ متأخّرةٍ من الليل، المكانُ شبهُ خالٍ، الظلامُ يحاصرُ السماءَ والأرض، وتبدو المسافةُ بينهما ممتدّةً من جبالِ عمّون إلى ملك جمال أنهار العالم، و(مارو) صانعةُ الكروشيه، تدفعُ بأنفاسِ رغبتها نحوهُ فيخورُ هو، ويهيجُ النهرُ، ويهتزّ السرير.


كانتْ تحضّر شجرةَ الكرزِ لتُثمرَ أغنياتٍ وقصائد، وكانتْ تلمّ النثرَ من على طوفِ القصيدةِ كي تزيّن به عنقها، عنقها الذي كانتْ تطلبُ منه أن يجعله ملعبًا لشفاهه، وكانت شفاهه تسعى بينَ البياضِ القابعِ خلف شحمةِ أذنها، وبينَ البياضِ الذي يشبهه ويلفّ كتفها، وكانَ يمرّغُ ألمه برعشتها المخدِّرة والمفرطةِ في التكثيف، كآخرِ قطعةِ (ماريغوانا) أشعلها وغاب.

صانعةُ الكروشيه؛ بملامح فلّاحاتِ جنوبِ دمشقَ، تفسح المجالَ لحاجبيها ليكونا حرَّينِ من كلّ حد، وتأخذُ حقول القطنِ على خدّيها المدوّرين وتغرقهما بالكرز، وتتركُ ما تعلّمتهُ منهُ عن تقنيّاتِ السردِ والشعرِ يتوهّجُ احمرارًا على وجهها، وعرقًا يسيلُ إلى سرّتها، وتبدأ (مارو) تقاوم انهيارَ حمّالةِ البروتيل الخضراء أمامَ هذا العصف. كانَ على شجرةِ الكرزِ أن تحترق ربّما، لتخلع عن جذعها كلّ هذا الأخضر الثقيل! وكانَ على حقولِ الذرةِ المعرّشةِ على رأسها، أن تخفي عيونَ الفهدِ الصامتِ المترقّبِ اقترابَ الفريسةِ، يقول لنفسه: "لا وحوشَ ضارية هنا، خذِ الخطوةَ واحرث هذه المساحاتِ نارًا، ولا تخشَ ملامحَ الفهد، إنها قطّةٌ قرويّةٌ اعتادتْ صيدَ السنونو".

"لا تصبغي شعرَكِ بالأشقر" تقولُ أمّها ويوافقُ المعلّم، وتعتقدُ الصغيرةُ أنّها الوصايةُ لا أكثر، ويعودُ الدرسُ ليأخذ شكلَ الدرسِ وتعودُ لتتقمّصَ الفهدَ، ويبدو المكانُ أضيقَ فأضيق، وتُغلَق جدرانُ المدى على خلوتهما، وتغمضُ السماءُ عينيها، وتصبحُ خدودُ الكرز خوابيَ نبيذٍ معتّقٍ، إلّا أنّ القطّةَ تختبئُ فيهِ وتضعُ رأسها على كتفهِ وتبكي.

كانتْ عيونُ المُخبِرينَ قد انطفأتْ، وكانا يلوّحان لتلكَ العيونِ بشفَقة، فالمخبِرُ كانَ يمكنُ لهُ أن يُقلعَ عن فعلتهِ لو استطاعَ العيشَ بأمانٍ، والأمانُ ليسَ إلّا ذاكَ الحضنَ الذي عرفتهُ صانعةُ الكروشيه، الأمانُ الممتدُّ من تحتِ ذراعِ المعلّمِ نحو شعيرات صدره التي تتناهى عندَ أسفل لحيتِهِ المهملة، هناكَ كانت الصغيرةُ تنصبُ أرجوحتها بعيدًا عن صوتِ الحربِ الذي يكتمه صدره، وكانت تستمعُ إلى دقّاتِ قلبهِ بإنصاتِ المنتظرِ لقذيفةٍ تُنهي حفلةَ الجازِ الشرقيّ، "الموسيقا هي الأصلُ" كانَ يقول، ثمَّ يشهقُ في وزنٍ يخفيهِ عازفُ الكلارينيت عندما يحلّقُ ويعود إليهِ كما يعودُ سربُ حمامٍ حامَ حولَ مدينةٍ وعادَ إلى بيته، كانا خارجَ حدودِ الحربِ لكنّها كانتْ في أحشائهم، وظلَّ الصمتُ حبلَ نجاةٍ ورايةَ سِلمٍ تؤكّد توقّف المعارِكِ التي لم تُبقِ شيئًا، وكانتْ شجرةُ الكرزِ تُزرعُ في إصّيصٍ فخّاريٍّ بدونِ تراب، لأنَ الصوفَ هجرَ المتنَ وصنعَ حاشيةً على شاكلته، وكانَ على المعلّم المتمسّك بالجذور الاعتراف، بأن ألوان الكروشيه أجملُ بكثيرٍ من لونِ شجرة الكرز الحقيقيّة.

(مارو) نامتْ، وودّعت الليلَ بجملتها الاعتياديّة "تصبح على قصيدة"، والصبحُ كانَ قريبًا جدًّا لدرجة أنّ ابن الغربةِ سافرَ نحوَ سريرها ليرى البياضَ الذي أرخى حمّالة البروتيل الخضراء، ويغمِّسَ لقمةً من الكرزِ الذي تعرّقَ فأثمرَ ليمونًا معصورًا على جسدٍ تلطّخَ بالفرحِ، فوصلَ إلى سريرها، لكنّه.. أدركها وقد ارتدت ثيابها، وخرجت!

(فلسطين)
دلالات
المساهمون