صالح سوريّ في الواحدة والأربعين من عمره. يروي حكايته مع مرض السرطان، وتنقلها "العربي الجديد".
بدأ الأمر قبل نحو سنتَين ونصف السنة، حين بدأت أشعر بألم في أسفل معدتي، وأنزعج عند تناولي بعض أصناف الطعام. راجعت الطبيب في بلدي (بلدتي) الصغيرة في ريف إدلب. كان طبيباً عاماً، هو كان الوحيد المتبقي بعدما أغلق المستشفى وسافر الأطباء الآخرون. قال لي إنّه التهاب في الأمعاء، ووصف لي دواءً. لم أقلق في ذلك حين، إذ لم تتعدَّ الأعراض بعض الضيق خلال عملية الهضم. طوال أشهر، راجعت الطبيب نفسه أكثر من مرّة، لأنّ الأعراض لم تختفِ ولم أستفد من الأدوية. وفي كلّ مرّة، كان يصف لي أدوية أخرى. وفي النهاية، قال لي: راجع طبيباً مختصاً. ليس في وسعي أن أفعل أكثر من ذلك.
سافرت إلى مدينة اللاذقية وقصدت طبيباً متخصصاً في الجهاز الهضمي. كنت قلقاً، لكنّني لم أفكّر في السرطان. عاينني الطبيب وطلب مني مجموعة من تحاليل الدم وخزعة من المعدة والأمعاء. مكثت وحدي في اللاذقية لأيام عدّة، إلى حين ظهور النتائج. وعندما حملتها إلى الطبيب، أخبرني بأنّها تظهر وجود ورم ما. شعرت بأنّ أحدهم يطعنني بسكين في بطني، وفقدت قدرتي على التواصل مع الطبيب للحظات. حاول أن يهدئ من روعي واقترح إجراء التحليل مرّة ثانية للتأكد. لم أخبر أحداً بالأمر، وبقيت في اللاذقية في انتظار النتائج، وكنت أصلي وأنا أمشي على شاطئ البحر. علمت أنّ النتائج الثانية أتت مطابقة للأولى وأظهرت درجتَين من السرطان في منطقة العفج.
عدت إلى زوجتي وأطفالي وإخوتي ووالدَيّ بهذا الخبر. زوجتي انهارت بالبكاء، وبدأت تلعن الظروف التي نعيشها والتي لم تسمح لي بالكشف المبكر عن المرض. والدتي كذلك بدأت بالنحيب والصياح، وراحت تلعن "ذاك المرض". كنت منهاراً من الداخل: "لا تقولي ذاك المرض، ممّا تخافين بعد الآن؟ لقد أصابني وقضي الأمر!". لم أخبر أطفالي. لديّ خمسة، اثنان منهم في الإعدادية. بدا شرح الأمر صعباً جداً، فأوكلت المهمّة لوالدتهم.
بدأت رحلة العلاج الكيميائي. كان عليّ السفر إلى اللاذقية مرّة كل أسبوعين، للحصول على الجرعة. وكانت رحلة العذاب. كانت الجرعات قوية، لدرجة أنّني كنت أمكث يومَين هناك قبل أن أتمكّن من العودة. أمّا السفر فكان مشقة بحدّ ذاته. حواجز وطرقات وعرة ومخاطر حرب، فيما أنا منهك. بعد العودة، كنت أقاوم بداية للنزول ولو لساعات إلى محل الألبسة الذي أملكه. لكنّني توقفت بعد فترة، حين صارت أسئلة الناس تكثر. وصار ولدي يعود من المدرسة ويفتح المحل ليبيع بعض القطع. وراحت حالتنا المادية تتدهور، إذ رحنا نصرف كلّ ما نملكه للعلاج والسفر.
أصعب القرارات التي اتّخذتها كان بعد ستة أشهر من العلاج، حين قال الطبيب إنّ الورم يبدي استجابة ضعيفة للدواء، وطلب مني الاختيار بين زيادة قوّة جرعة الكيميائي وبين عملية جراحية. فسافرت إلى دمشق لألتقي بالجراح. قال لي حينها: "نحن لا نعلم حجم الانتشار. سوف أفتح بطنك. إن كان منتشراً، أغلقه ولا أفعل شيئاً. وهذا ما حدث. لكنّه أجرى توصيلاً في أمعائي قبل أن ينسدّ المجرى الهضمي نهائياً. بعد هذه الجراحة، تدهور وضعي الصحي كثيراً، والنفسي كذلك. أصرّت زوجتي على إلقاء اللوم على الأطباء وانعدام الرعاية الصحية، فيما كنت قد وصلت إلى الخط النهائي. لم أعد أتقبّل الطعام، وأقع مغمىً عليّ في أيام. صرت أرى أنّ الجميع يشفق عليّ، وصرت أحاول أن أمثّل أمامهم. لكنّني كنت أنهار بالبكاء فجأة.
ولمّا صارت ظروف السفر في سورية أكثر صعوبة، قرّرت مع زوجتي أن نقصد تركيا بحثاً عن علاج ورعاية أفضل. عارض أهلي بشدّة، فهم كانوا يخافون أن أموت بعيداً عنهم. لكنّني قرّرت أن أقاوم حتى النهاية. بعنا ما استطعنا لتوفير نفقة السفر وتوجّهت مع زوجتي وأطفالي إلى إسطنبول. كان السفر شاقاً في البحر، واستغرقت رحلتنا يوماً كاملاً.
استأجرنا منزلاً متواضعاً واستخرجنا ورقة الحماية التي تمنحها إحدى المنظمات التركية، قبل أن أراجع أحد المستشفيات الحكومية التي تؤمّن العلاج المجاني للسوريين. وبدأت العلاج الكيميائي من جديد. كنتً أضطر أحياناً إلى المكوث أياماً عدّة. ورحت أشعر بالذنب. ولدي الأكبر في السادسة عشرة من عمره، تحوّل إلى رجل في غضون سنة. كان يغيب عن مدرسته التركيّة لأيام، حتى يبقى معي في المستشفى ويترجم لي التركية التي استطاع تعلّمها خلال أشهر عدّة. أذكر تلك المرّة التي عاد فيها من المدرسة سعيداً وقال لي: "أبي! أخبرني صديقي التركي أنّهم اكتشفوا عشبة للسرطان وأنّه قرأ عنها على الإنترنت. عانقته وبكيت".
بعد أيام من وصولنا إلى تركيا، تعرّفت إلى رجل تركي عجوز. كان سائق تاكسي، وبدا كأن الله أرسله لنا من السماء. منذ ذلك الحين، لم يتركنا. يصطحبني إلى المستشفى ويساعدنا في تسيير أمورنا هنا. هو يقف إلى جانبي في كل المواقف الصعبة مع أنّنا لا نتقن لغة مشتركة.
بقيَ لي من هذه الحياة أيام معدودة. هذا ما قاله الأطباء. أشعر حيناً بالطمأنينة، وأحياناً أخرى برعب شديد. أكثر ما أخاف عليه هم أطفالي. لديّ شعور بأنّني خذلتهم وبأنّني سوف أتركهم وحدهم في هذه الدنيا. في بعض الأوقات، أتمنى لو أرحل سريعاً، ليمضوا في حياتهم بصورة طبيعية. أشعر دائماً بأنّني أودّعهم. أكثر ما يزعجني هو أنّ طفلَيّ الصغيرَين لن يتذكراني ربما إلا ممدداً على الفراش. وتبقى أفضل اللحظات تلك التي أقضيها باللعب مع صغاري. خلالها، أنسى السرطان.
اليوم، أفتقد والدَيّ كثيراً، وأتمنّى أن تسامحني والدتي لأنّها لن تراني بعد اليوم. أفتقد المشي لمسافات طويلة في الشوارع، وأفتقد تناول الطعام اللذيذ من دون خوف. يقولون إنّ إسطنبول مدينة رائعة، لكنّني لم أرَ فيها إلا هذا البناء والمستشفى. هل هي حقاً كذلك؟