صارت معي... بين حيفا وبيروت (2)
كنت أمسك برأسي بين يدي وأنظر إلى الأرض. لم ألحظ أنّ شخصاً ما اقترب وجلس إلى جانبي. كان يقرأ جريدته. لمحته بطرف عيني. وتساءلت كيف ظهر فجأة؟
انتبه أنّني أخيراً أحسست بوجوده. فالتفت إليّ، وقال: "قطاري يصل كل يوم في الوقت ذاته، وأجلس على هذا المقعد العتيق. لم أرك هنا من قبل. هل أنت جديدة في المنطقة؟".
ما الذي جاء بهذا الغريب؟ ظننت أنّني ابتعدت بما يكفي عن محطة القطار والناس.
كانت تلك الشهب السوداء التي مرّت بخيالي تقنعني بالانتحار لا تزال تؤلمني. أنانية أنا. كيف اتجرّأ على التخلّي عن أطفالي ليواجهوا وحدهم قسوة هذا العالم؟
كانت الدموع تتحيّن فرصة للقفز من مقلتي. نظرت إليه، فازدحمت، وانهمرت تحرجني وتربكه هو أيضاً.
تلعثم قبل أن يعرض عليّ المساعدة، بصوت متقطّع ونظرات حائرة.
شكرته، ومشيت مبتعدة عن المكان. تسارعت دقّات قلبي مع سماع صوت خطواته تلاحقني.
اضطررت إلى أن أعود ذلك المساء إلى منزل سلفي (أخو زوجي)، فالخوف سيطر على كل المشاعر الأخرى. وقفت أمام باب المنزل ونظرت خلفي، أردت ان أتأكّد من رحيله. رأيته واقفاً على بعد أمتار. دخلت مرعوبة كمن رأت شبحاً.
تململ سلفي من عودتي. لم يتوقّع أن أكون بهذه الوقاحة. كنت معروفة بحساسيتي المرهفة. لكنّها اللحظة التي فهمت فيها كيف تهدر الكرامات.
هممت بالدخول إلى غرفتي، فاستوقفني، وقال: "أرجو أن تكون هذه آخر ليلة لك هنا".
لم أنم تلك الليلة، كنت فقط أحتمي بين جدران تلك الغرفة الصغيرة من وحشة الظلام. مع بزوغ الفجر، جمعت ملابسي، وتعهّدت بأن أغادر ذلك المنزل إلى غير رجعة.
جرّتني قدماي من حيث لا أدري إلى سكّة القطار ذاتها. كنت أكذب على نفسي أو كنت أكابر وأرفض فكرة انتظاري ذلك الغريب. لكنّي في أعماقي تمنّيت قدومه. كنت كغريق يتمسّك بقشّة، أملاً في الخلاص.
جلست على المقعد الخشبي ذاته. وضعت حقيبتي بالقرب منّي وانتظرت. وبدأ الظلام يتسلّل. لن يأتي. خاب أملي. لكن لماذا أنتظره؟
تقوقعت أنصت إلى كل همسة بحذر.
مضت الليلة على خير. وعند الصباح، رحت أطرق أبواب جميع المحلّات بحثاً عن عمل.
لا أزال أذكر تلك الوجوه التي رفضتني باستهتار.
يئست، وعدت إلى مقعدي العتيق، كان أكثر تعاطفاً معي من تلك الخيالات البشرية.
كنت أملك مبلغاً بسيطاً من المال. انهمكت أعدّ قروشي.
لمحته يسير باتجاهي. اقترب منّي وجلس بقربي. وقبل أن تمضي ساعة، كنت قد سردت له مأساتي بأكملها. كنت كمن يفرغ حمولة لم يعد قادراً على احتمالها.
"يمكنك أن ترحل ببساطة الآن".
شرد عنّي للحظات أحسستها دهراً.. ثم قال: "أقيم في شقة متواضعة، لكن منزل أهلي قريب، سأترك لك المكان ريثما تجدين عملاً".
كان عرضه مغرياً ومريباً في الوقت ذاته. وكان أمامي الشارع أو الوثوق بهذا الغريب.
رافقني إلى الشقة وسلّمني المفتاح.
مرّت أشهر، ونحن نلتقي يومياً. فنشأ بيننا نوع من المودّة. ما لم يخطر على بالي أن يتقدّم طالباً الزواج منّي. أنا الأرملة والدة أربعة أطفال وهو شاب أعزب، من عائلة معروفة في المنطقة. يستحيل أن يوافق أهله على ارتباط كهذا.
أحبّني لدرجة قبوله بحرمانه من الميراث وتخلّي عائلته عنه.
تزوجنا. ولا تزال ذكرى زوجي تؤلمني. لا أستطيع أن أقول إنّني لم أحبّه، لكنّه حب من نوع آخر.
قرّرت بيروت أخيراً أن تفتح ذراعيها وتحتضنني، بينما وقفت حيفا مكتوفة اليدين تحرمني العودة إلى أحضانها.
أنجبت طفلة، كان أشقاؤها من أب آخر، لكنّه رباهم من دون أي تمييز.
لم أستطع يوماً أن أعود المرأة التي كنتها. طيف طفلي الذي تركته رضيعاً في حيفا، بقي غصّة في قلبي.
مرّ العمر وأنا أتضرّع يومياً أن يجمعني به الله قبل أن أموت.
تتبعت أخباره حتى عرفت أنّه تزوّج وأصبح أباً. كنت قد كبرت، لكنّي صمّمت على أن أراه ولو مرّة واحدة فقط... وبعد اتصالات لا تعد ولا تحصى، وجدت نفسي أتهيّأ للعودة إلى حيفا...
ارتجفت وتوتّرت. كيف أقابل ابناً فشلت في احتضانه؟ أخافتني تلك الفكرة. هل سامحني؟ هل يكرهني؟ هل كان يفكرّ بي يومياً كما فعلت؟ كم مرّة احتاج إليّ ولم ألبّ نداءه؟ وعادت ذكرى سكّة الحديد إلى بالي حيث وقفت أفكّر في الانتحار. كم احتجت أمّي وقتها وأمي فقط. يبقى حضن الأم كوكبنا الصغير الآمن مهما تقدّم بنا العمر.
التقينا أخيراً. أم مسنّة ورجل بالغ. بكيت حرقة على حرمان طفل من أغلى ما في الوجود. وبكى وفي عينيه عتاب يخفيه.
أعادت إليّ حيفا ذكرى ذلك المساء، ذلك الوجع الذي انتشل قلبي. أردت الهروب. فقد هرمت ولم أعد أحتمل.
عدت إلى بيروت القريبة البعيدة، وبقيت روحي تتأرجح بين حيفا وبيروت.