شهر من المراوغة السعودية: الأسيد يتصدّر سيناريوهات جثة خاشقجي

02 نوفمبر 2018
لم يكن هناك حاجة لدفن ما تبقى من الجثة(الأناضول)
+ الخط -

كأن لحظة الإعلان الرسمي عن حقيقة ما حلّ بجثة الإعلامي جمال خاشقجي الذي قتلته السلطات السعودية في قنصلية المملكة في إسطنبول، قبل شهر من اليوم، تقترب، مع تسارع وتيرة تسريب مؤشرات تنتهي جميعها إلى معرفة سبب عدم العثور على الجثة المقطعة بعد كل هذه الفترة من ارتكاب الجريمة، ذلك أن السبب قد يكون ببساطة أنه لم تعد هناك جثة أصلاً ليتم العثور عليها، بعدما تم تذويبها بحمض الأسيد، وفق ما رجحته مصادر تركية لصحيفة "واشنطن بوست" الأميركية أمس. تسريب كانت النيابة العامة التركية قد مهدت الطريق إليه، أول من أمس، في بيانها المفصلي في القضية، والذي أوضحت فيه أن خاشقجي تم قتله فور دخوله مبنى القنصلية في ذلك اليوم المشؤوم، بمخطط معد له سلفاً، بعدها تم تقطيع الجثة و"محوها" أو "إزالتها". رواية كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد لمّح إليها في الأسبوع الثاني ما بعد ارتكاب الجريمة، عندما تحدث عن العثور على مواد سامة داخل القنصلية في أول أيام تفتيش القنصلية من قبل السلطات التركية.
هكذا، تدخل جريمة خاشقجي، اليوم، الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني، شهرها الثاني من المراوغة السعودية والكذب الصريح في ما يتعلق بالجريمة نفسها أولاً، ثم من التستر على مصير الجثة ثانياً، وهي العقدة الوحيدة التي لا تزال مجهولة بشكل يقيني بالنسبة لأنقرة، إذ لا السلطات التركية تمكنت من العثور عليها أو على ما تبقى منها، ولا الرياض وافقت على الاعتراف بما حلّ بها، وهو ما تُرجم بوصف أنقرة لزيارة الأيام الثلاثة التي قام بها النائب العام السعودي سعود المعجب إلى إسطنبول، مطلع الأسبوع الحالي، بـ"المفتقرة للنتائج"، أو الزيارة الشكلية، على حد وصف بعض وسائل الإعلام المحلية الموالية. ومع دخول القضية شهرها الثاني، تكشفت مواقف إضافية ربما تكشف عن العقلية الحقيقية لحكام الرياض في زمن ولي العهد محمد بن سلمان، لجهة رؤية الأخير للعالم، إذ نقلت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، أمس، عن بن سلمان، قوله لمسؤولين أميركيين، خلال اتصالات أجراها مع كل من جاريد كوشنر، كبير مستشاري الرئيس دونالد ترامب، ومع مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون، بعد 5 أيام من جريمة قتل خاشقجي، إن الإعلامي الراحل "إسلامي خطير وعضو في تنظيم الإخوان المسلمين"، وهو الوصف الذي تقول الصحيفة إن بولتون لم يبدُ متحمساً له. كذلك تلقت الصحيفة رسالة من عائلة خاشقجي، التي أصبحت تعيش في الولايات المتحدة بعدما كان معظم أفرادها يقيمون في إقامة جبرية في المملكة، رفضت فيها الوصف الذي أطلقه بن سلمان على جمال خاشقجي ووصفته بالسخيف. كذلك نقلت الصحيفة عن مسؤول سعودي نفيه للكلام المنسوب إلى محمد بن سلمان عن جمال خاشقجي خلال الاتصالين الهاتفيين المذكورين.

وشددت الصحيفة على أن الكلام المنسوب إلى ولي العهد صدر قبل الإقرار الرسمي السعودي بتصفية جمال خاشقجي داخل القنصلية.
في سياق متصل، نقلت "واشنطن بوست" عن مسؤول تركي رفيع المستوى قوله إن "السلطات التركية ترجح نظرية مفادها أن جثة خاشقجي المقطعة تمت إذابتها باستخدام حمض الأسيد داخل القنصلية السعودية أو في مقر القنصل العام السعودي القريب". وقال المسؤول، الذي طلب عدم الكشف عن هويته لحساسية القضية، إن "الأدلة البيولوجية التي تم اكتشافها في حديقة القنصلية تدعم النظرية القائلة إن جثة خاشقجي تم التخلص منها بالقرب من المكان الذي قتل ومزقت أوصاله فيه". وأوضح أن "جثة خاشقجي لم تكن بحاجة إلى دفن"، وهو ما يبطل مجدداً الرواية التي سبق أن نقلتها شبكة "سي إن إن" الإخبارية الأميركية عن مصدر مقرب من الديوان الملكي السعودي، ومفادها أن جثة الإعلامي الراحل "تم تسليمها لمتعاون محلي في تركيا". وعن هذا الموضوع، أفاد المسؤول التركي للصحيفة الأميركية التي كان خاشقجاً كاتب عمود فيها، بأن "المحققين الأتراك لا يعتقدون بوجود متعاون محلي".
وفي السياق نفسه، قال مسؤول تركي رفيع المستوى آخر إن النائب العام السعودي سعود المعجب، لم يقدم أي معلومات عن موقع رفات خاشقجي ولم يحدد من هو "المتعاون المحلي" المذكور، بحسب الصحيفة ذاتها، علماً أن بيان النيابة العامة التركية، أول من أمس، نقل عن المعجب أنه لا دليل على وجود هذا "المتعاون المحلي" التركي.


وعن الموضوع نفسه، قال وزير العدل التركي عبد الحميد غول، إن قضية قتل خاشقجي "أصبحت قضية عالمية، ولا يمكن لأحد التستر عليها أو التهرب من المسؤولية". وأوضح غول في تصريح للصحافيين، أمس الخميس، أن تركيا تتطلع لتعاون وثيق من جانب المسؤولين السعوديين بشأن الجريمة، وأن على الرياض تقديم الدعم من أجل كشف كل ما يتعلق بها. وأضاف أن أنقرة تنتظر من الرياض الإجابة عن تساؤلاتها في أقرب وقت ممكن. مشيراً في هذا السياق، إلى عدم حصول النيابة التركية على أجوبة من النائب العام السعودي رغم تقديم أسئلة خطية له حول مقتل خاشقجي.
وحول احتمال زيارة النائب العام في إسطنبول عرفان فيدان إلى السعودية، قال غول إن "هذا يعود لتقدير النيابة، ولكن أعتقد أن ذلك لن يكون وارداً، لأن مسرح الجريمة في تركيا، وأعتقد أنه لن يكون صائباً الدخول في مرحلة أخرى قبل الإجابة عن أسئلة تركيا". وأشار إلى أن القضاء التركي سيجري تحقيقاً معمقاً لإيجاد أجوبة عن الأسئلة الموجهة إلى الجانب السعودي.
وأضاف غول أن المعلومات التي كشفت عنها النيابة العامة في إسطنبول، تؤكد مقتل خاشقجي بطريقة وحشية، مشيراً إلى أن القضاء التركي لديه القدرة على كشف كامل تفاصيل الجريمة. وأردف قائلاً: "وجود المتهمين بقتل خاشقجي في السعودية، يبقي بعض الأسئلة من دون أجوبة، لذا على الجهات السعودية دعم التحقيقات الجارية في هذا الخصوص". وتابع أن "أنقرة تقدمت بطلب إلى السلطات السعودية لتسليمها المتهمين، وتنتظر تلبية هذا الطلب من قِبل الرياض". ولفت إلى أن المجتمع الدولي والرأي العام العالمي ينتظران بفارغ الصبر كشف تفاصيل الجريمة.

لكن التصعيد التركي الحقيقي أتى من نائب رئيس حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم نعمان قورتولموش، لا من وزير العدل، إذ حذّر الأخير من أن عدم قيام السعودية بكشف ملابسات جريمة خاشقجي "سيجعلها تصبح وحيدة في المنطقة". وقال قورتولموش إن على الملك سلمان شخصياً أن يعطي تعليمات وأوامر كي يتم الوصول للحقيقة بسرعة، لأن السعودية لن تتخلص من "هذه الشائبة" أبدا إذا لم تقم بكشف الحقيقة كاملة. وأضاف أنه يفهم من تغريدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب قبل يومين أنه يحاول التغطية على قضية خاشقجي، وأن على الجميع أن يستخدموا قوتهم الكاملة للوصول إلى الحقيقة في الجريمة، في إشارة إلى تصريحات ترامب حول أنه لا يعتقد أن حكام المملكة خدعوه في ما يتعلق بالقضية، بل إنهم ربما خدعوا أنفسهم، ربما في ترويج أميركي جديد لرواية أن لا الملك ولا ابنه ولي العهد محمد بن سلمان كان على علم بقرار الإعدام. وعن هذا الموضوع، قال ترامب للصحافيين، مساء الأربعاء: "آمل فقط أن ينجح الأمر كله. لدينا الكثير من الحقائق، لدينا الكثير من الأشياء التي كنا نبحث عنها. لم يخدعوني (المسؤولون السعوديون). أعني، ربما أنهم خدعوا أنفسهم. سنرى كيف سيظهر كل ذلك".
وفي المقلب السعودي، تواصل الرياض محاولة الضغط على دوائر محسوبة على اللوبي السعودي في أميركا، ليمارسوا بدورهم ضغطهم على دوائر صنع القرار في الإدارة وفي الكونغرس للتغطية على السعودية وتبرئة قيادتها من المسؤولية عن الجريمة. وفي هذا السياق، حذر الأمير تركي الفيصل، الرئيس السابق للمخابرات السعودية، من أن الغضب الأميركي الذي "يشيطن المملكة" في قضية خاشقجي "يهدد العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة". وقال الأمير تركي في خطاب أمام المجلس الوطني للعلاقات الأميركية العربية في واشنطن: "نحن نقدر علاقتنا الاستراتيجية مع الولايات المتحدة ونأمل في الحفاظ عليها، ونرجو أن ترد الولايات المتحدة بالمثل". وعمل الأمير تركي، الذي كان خاشقجي مستشاراً له في السابق، سفيراً للسعودية في لندن وواشنطن أيضاً. وعلقت وكالة "رويترز" على كلمة الأمير تركي بالقول إنه "من الواضح أن الرياض أجازت خطابه الذي يندد فيه بما وصفه بشيطنة المملكة العربية السعودية". وأشار تركي الفيصل في خطابه إياه، إلى أن العلاقات الأميركية السعودية تخطت أزمات سابقة على مدى أكثر من 70 عاماً، وقال "ها هي هذه العلاقة مهددة اليوم من جديد". وتابع أن قتل خاشقجي "المأساوي غير المبرر... هو موضوع الهجمة على المملكة وشيطنتها بنفس نمط الأزمات السابقة. شدة الهجمة والجلبة المحيطة بها جائرة بنفس القدر". وخلص إلى أن "إخضاع علاقتنا لهذه القضية أمر غير صحي على الإطلاق".