شم النسيم في بلاد الغربة له طعم مختلف تماماً عن ذلك الذي عهدناه منذ الصغر، فلا أهل ولا وطن ولا لمة إلا من قليل من أصدقاء الغربة، والذين لاذوا بالفرار من ذكرياتهم الحلوة وأيامهم الجميلة في مصر أم العجايب، للاحتماء ببعضهم البعض كمحاولة لمس ذلك الإحساس الخفي في هذا اليوم بالذات. يعشق المصريون تلك الأكلات غير التقليدية من الرنجة والفسيخ المعتق غير آبهين لمضاره أو منفعته.
وما إن تبدأ رسائل التذكير بشم النسيم على مواقع التواصل الاجتماعي حتى تمتلئ الصفحات بصور شتى لموائد امتلأت بتلك الأكلات، وكأنها باقة ورد يبعث بها الأهل والأصحاب إلى ذويهم كي يخففوا عنهم عبء الاغتراب.
يقول هشام عبد الوهاب، مصري مقيم في الدوحة، "..في بداية أبريل/نيسان الحالي أرسلت لي أمي فيديو مصوراً لكعكة دقيقة الصنع صنعتها خصيصاً للاحتفال بعيد ميلادي.. وكانت قد طلبت مني قبلها أن أتواصل معهم عبر سكايب حتى يكون الاحتفال (أونلاين)، بدا الأمر في البداية وكأنه واقعي، وكأنني وسط "لمتهم الحلوة"، ولكن ما إن بدأ احتفالهم حتى انتابني شعور قوي بالغربة، فلم أكن ألمس يدي أمي وأقبلهما كما كان يحدث من قبل، ولم أكن أشعر حقاً بحرارة تلك الشموع التي تزينت بها كعكة عيد ميلادي.. وها أنا اليوم تتكرر معي نفس الأحاسيس وما زالت أمي ترسل لي بصور لأطباق صنعتها بيدها، تذكرني بأنني كنت أحبها في شم النسيم".
وفي نفس المكان، وعلى بعد بضعة أميال، تجمع عدد كبير من الأصدقاء، جمعتهم الغربة في يوم من أيام مصر.. تقول حنان "تجمعنا اليوم في هذا المكان المفتوح وقد أعددنا أطباقاً شتى من الرنجة والفسيخ وبعض الأسماك النيلية المستوردة من مصر وزيناها بالخس والبصل والخبز المصنوع بأيدٍ مصرية، نحاول في كل عام، أو بالأحرى في كل مناسبة، أن نجتمع معاً حتى نقلل من مشاعر الغربة القاسية".
واستطاعت حنان التقاط بعض الصور لتلك المناسبة ورفعتها على صفحتها في فيسبوك، ابتهاجاً بذلك اليوم المصري بامتياز. وعلى موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك توالت النكات الساخرة من شراهة المصريين لأكل الفسيخ، حتى إن أحدهم وصف نفسه بالانتحاري لأنه تناول طبقاً كبيراً منه رغم تحذيرات الأطباء له بعدم تناول الأسماك المملحة أو المدخنة والمحفوظة بمواد قد تكون لها أضرار كبيرة على الإنسان، فأساس مشكلة التسمم الناتج عن أكل الفسيخ يرجع إلى طريقة التحضير التي قد تكون غير آمنة من الناحية الصحية، لقلة وجود الملح في الفسيخ وعدم تركه وقتاً كافياً لكي يتملح، وبالتالي فإن السموم الموجودة في الفسيخ لا يبطل مفعولها وتأثيرها على الإنسان إلا إذا تعرض الفسيخ لدرجة حرارة عالية لمدة عشر دقائق مثل القلي في الزيت.
ولا تخلو التعليقات في هذه المناسبة من نصائح الأطباء المستمرة والمضنية والتي تحاول (فطام) المصريين عن هذه الأكلات من دون جدوى، فتقول إسراء عارف، طبيبة، "ألا يأتي على المصريين يوم يمتنعون فيه عن هذه العادات القاتلة.. إنها حقاً لمضيعة للصحة ولعب بالأعمار، الجميع يعرف أن هذه الأشياء إن لم تكن سامة بامتياز فإنها معاول الهدم لبنية الإنسان". وحذرت من الأضرار الصحية التي قد تنتج عن الإسراف في تناول الفسيخ والرنجة والأسماك المملحة، قائلة إنه "يجب على أصحاب الأمراض المزمنة عدم الإكثار من تناول هذه الوجبات التي اعتاد المصريون تناولها في هذه المناسبة".
ورغم أن المواقع الاجتماعية نجحت إلى حد ما في إدخال الإنسان إلى عالمه الذي يبحث عنه، ولو من خلف شاشة هاتفه الذكي صغيرة الحجم، إلا أنها ما تزال مجرد حجرة مظلمة لا إحساس فيها أو شعور، إنما هي مجرد قنوات لبث المشاعر الحارة لتوصلها إلى أصحابها باردة لا روح فيها.
(مصر)