شجر الشوق

27 ابريل 2019
أشجار مميزة (راكيل ماريا كاربونيل باغولا/ Getty)
+ الخط -
ماذا لو تغنّت سيدة الغناء العربي، أم كلثوم، بـ"شجر الشوق" بدلاً عن "سهر الشوق" في رائعة جورج جرداق "هذه ليلتي"؟ ألم يدركا أنّ هناك أشجاراً تُعبأ بالأشواق مع ما فيها من أشواك؟ الأكاشيا أو الأكاسيا هو جنس من أشجار وشجيرات تصل إلى أكثر من ألف نوع (ما بين 100 إلى 1350)، وبهذا يتشكل ما يمكن اعتباره الجنس الأكبر على الإطلاق للنباتات الوعائية. ومفردة أكاسيا أخذت من اللفظ اليوناني (أكيس) الذي يعني شوكة.

في الحزام الأفريقي الذي يضم شمال ووسط السودان، حيث البيئة الصحراوية، وشبه الصحراوية وُجدت أنواعٌ عديدة من الأكاشيا على ضفاف الأنهار، وفي السهول البعيدة وحول المجاري المائية، وعلى التلال الرملية، وحتى بين التلال الصخرية، حيث يكثر السيّال والسُّنُط والسَّلَم والطَّلِح واللعُوت والكِتِر والحَرَاز والسِّدِر والطُّنْدُب وغيرها. واعتمدت حياة السكان الاقتصادية في جزء كبير منها على هذا الوجود الطبيعي، أما ما يزرعونه فهو النخيل وأشجار الفواكه في البساتين، وبعض أشجار الظل الدخيلة على بيئتنا مثل النيم واللبخ وغيره، في البيوت والشوارع والمؤسسات.

لبعض هذه الأشجار عند القرويين علاقات ثقافية واجتماعية يرتبط بعضها بالأساطير القديمة. وورد منها أنّ على من ينوي سفراً بعيداً أن يربط قطعة من القماش في شجرة الشوق هذه، أو شجرة المسافرين لدى البعض، تلك التي تحرس مداخل القرى، وفي هذا فأل حسن بالعودة. فالمسافر تكون الشجرة آخر ما يرى من معالم القرية، وأول ما تقع عليه عينه حين يعود. وهكذا يفعل العشاق، إذ يخفي كلّ عاشقين خيطاً أحمر بين الغصون تفاؤلاً بالارتباط الوشيك.

جاءت أساطير الإنسان في مختلف بيئاته وحضاراته متشابهة متفقة، ما أثار الحيرة في علّة تشابهها، وفي وجهة نظر المسعودي الواردة في "مروج الذهب ج 3" فالناس بدأوا في بيئة جغرافية واحدة، في ظروف متشابهة، ثم تفرقوا بعد ذلك في شتى أنحاء العالم. وفي ذلك رد على التساؤل الذي تولّد لدي وأنا أقارن الصور المختزنة في ذاكرتي منذ الطفولة بتلك التي تعرفت عليها لاحقاً من خلال اطلاعي على بعض الأساطير الأفريقية، وفي جزء من أدب أميركا اللاتينية.




الآن، لم تعد شجرة المسافرين تحتل مكانها ومكانتها في حياتنا، فقد توفر للعشاق التواصل على خط الهاتف، فلا حاجة لخيط أحمر أو أخضر في ظل هذا العالم الرقمي اللانهائي، ولن ينشغل المسافر بفأل العودة أو الانجراف بعيداً، مثلما تنجرف تربة المزارع والمراعي والمساكن بفضل انعدام الشجر، وفي أحيان كثيرة نستبدل شجر البيئة بغيره، إلى حد أنّ شوارعنا ومنتزهاتنا عرفت الشجر البلاستيكي. وما علينا وعلى أشجارنا وبيئتنا إلاّ البكاء والسهر شوقاً لتلك الأيام التي لن تعود.

*متخصص في شؤون البيئة
دلالات
المساهمون