شجرة أخي أبسالون

09 مايو 2014
الشاعر اليوناني ديميتري أنغيليس
+ الخط -

[لا شك أن لولادة الشاعر اليوناني ديميتري أنغيليس في مدينة أثينا (1973) وقعٌ على الشعر الذي يكتبه. إذ تحضر هذه المدينة من خلال أساطيرها وشواطئها وبحرها في قصائده فتمّدها بنفسٍ ملحمي وبُعدٍ لا زمني. كما تحلّ بحروب أبنائها، وحبّهم للمغامرة والسفر، وقدريتهم، فتشحن خطابه بغنائية مألوفة وفي الوقت ذاته مبلبلة.
لكن هذا لا يعني أن قصائد أنغيليس تشكّل عودةً إلى الوراء أو تعبيراً عن حنينٍ لماضي هذه المدينة وأمجادها الغابرة؛ بل ركيزة لاستثمار عناصر تعزّز شهادة الشاعر على تاريخٍ بشري ما برحت فصوله السوداء تتكرر على مرّ الزمن.

وبالتالي، بقدر ما يبدو شعر أنغيليس محرّراً من زمنيةٍ محددة، بقدر ما هو مرسّخٌ في الحاضر والراهن، يسعى، بلا جهدٍ، إلى قول حقيقةٍ مريرة: عنف الإنسان ومثابرته على زرع الرعب والموت والدمار، رافضاً استخلاص أي أمثولة من تاريخه الحافل بالمجازر والحروب. وفي هذا السياق نقرأ قصيدته "غرنيكا 2006" التي تنحاز إلى الأطفال في لبنان أمام آلة العدوان الإسرائيلي في حرب تموز.

وحتى حين يتوجّه أنغيليس في بعض قصائده إلى الحبيبة، تلفّ الكآبة خطابه، لكن دون أن تفقده الأمل بالحب الذي يبقى، على ندرته، خشبة الخلاص الوحيدة التي تحول دون غرق الشاعر في بحر يأسه- المبرَّر على أي حال].


من دون نارك

في القلب، شتاءٌ قاسٍ، لأن نارك غائبة
والذئب الذي يعبر على الثلج الناعم للجسد، على رؤوس أصابعه،
ترك للأرزات، قبيل رحيله،
آثاراً رهيبة لغزوٍ وحبٍّ لا يتلف
ولم نعد نراه إلا في هذه الأماكن النادرة:
في زهور الأحراش التي يُميتها الفجر، وفي المعاطف الفارغة
التي تعبر أحياناً ضباب فكرك غامضةً
ممسكةً بيدها الخفيّة سيفاً؛
لتنتقم من توالي خياناتك.

حين ينعكس وجهك على سطح الماء
يحاصرك الندم كأفواهٍ مدماة، بعد كل ما لم تفعليه،
وباكيةً - مثل نساء مجلببات بالسواد - على الشاطئ ترجِمُ الجثامينُ
البحرَ فتعكّر صفو جبينك. فلا تحاولي تفسير ذلك.

من دون النار التي وعدتني بها، ها أنا ممددٌ الآن على الرمل قرب
جثة حصاني، أتأمّل النجوم
متلهفاً لبريق عينيك الحارقتين حتّى في هذه الليلة
تزيّنان كمنارتين توأمين
حِدادي الذي أبداً لا ينام.


خروج من الظلمات


كلماتٌ غاضبة كانت تمطر على عشب صدري وسفينتي تتأرجح.
في الخارج
كانت الجُمَل المبعثرة الموجعة والأخطار
والصاعقة تزوبع في الهواء
وفي الداخل
كان نوح يحمي ذاكرتي.
في الحديقة كانت الأشجار تنمو فجأةً
كأدغالٍ عطرة على الأرض، وفي القلب [شجرة] دلْب أخي
أبسالون
التي تسقيها أنهارٌ خمسة سِياميّة تنزل عكرة من الجبال،
يقودها [النهر] إيفروس.
بين الأغصان المتعفّنة
تراقب التماسيح النَهِمة
كلمتَي "وعد" و"مصالحة" وهما تدوران بلا انقطاع في المياه
ثم تتوهان في عمق الأدغال المظلمة
حيث تقولين إنك مختبئة.

جلبتُ ناري
إلى هذه الحدود القصوى، على أمل ـ

(قطيعة: شعور بفقدانٍ وشيك. على الشاطئ
المقفِر كلبٌ يركض. دائماً هو نفسه. إخفاق)




برسبوليس


منذوراً لظلمات أكثر عمقاً، أنتظركم كي أُقتاد بأسواطكم وسيوفكم المُدَمْشَقة إلى بلد إقامتي الجديدة. أسوارٌ ضخمة. راياتٌ ممزقة. وعظامٌ قديمة هائلة مبعثرة حول الفراش الذي ينام عدوّي فيه عند المساء. يا أمي آسيا، عيناك جاحظتان ـ

ينفتح باب برونزي يعود إلى زمن السلاطين: ها هي أسنان الصخور السوداء وأمواجٌ هائلة ومقفَرة. طرف العالم، مدينة مشيّدة بالحجارة والقوة، أُساساتها نحيب آلاف الأطفال. أدخل إذاً مكرّماً: يا سيدي ومُسنّ شريعتي، أحمدك لانتزاعك مني أمل الحياة. فلتكن جميع أفعالك إراقة دماء، إلى الأبد!

غطرسة الصوت. يأجوج وماجوج، لا تمزّقوني... حياتي مهزلة، قدَرٌ يتعذّر فهمه. منذورٌ لظلماتٍ أكثر حلكةً، كنتُ في انتظاركم: لقد شربتُ حليب ليلتي، وبتأنٍّ وضعتُ على الكرسي إكليل الشوك وتمددتُ - والشمعة مضاءة - على كعكة الأموات، مستعداً. ضامناً أن القدر المحتوم، بين لحظة وأخرى، سيوافيكم.

يا سيدي وأبي، اسمٌ يتعذّر لفظه، أرجوك، الآن وقد وصل بي الحال إلى هنا،
بمنجلك احصدني.



صور فوتوغرافية


هذه هي عيون أرقي، منذ
أن حملتُ الطفل بورعٍ في ذراعيّ، عارفاً
سبب وجودي؛ خريفيٌّ، آفلٌ بلا شك، لكن حيّاً
في هذا المنزل المنحدِر الذي يطفو
بين كثبان وأثْلِ غيابك، يا ابنتي.

هذه هي ضفاف أرقي التي، بعد وديان لا نهاية لها
وغرق ممالك ومدن،
تحنّطت بأنانيتك حين لم ترتدِ
إكليل الشوك عند طلبك الآمر،
كما ينبغي في الشهر الخامس من العمر.

وهذه هي أشواك أرقك التي لممتُها واحدة بعد الأخرى بينما
كنتِ تكبرين بين ضحكٍ ودموع
وحفظتُها في الكأس البلورية كي أشربها حين نلتقي من جديد
متناسياً شهاداتك الكاذبة التي اقترفتِها بين أذرع مجهولين، وتفاحات الحديقة
التي وهبتها لغرباءٍ غدّارين
لأنك كنتِ طفلة تغذّي قلبها بقشرة
خبزنا المبعثر على الأرض.

ضلّلي الزمن، انتظري سفينتي قليلاً قبل أن
تبدّل يداك أوراقها.
سيدخل السلام مجدداً إلى بيتنا، وستُشيَّد من جديد المدن الأبيّة التي أتلفتْها
نظرتُك الثلجية ـ إن عدتُ يوماً ولم تنسِني.


غرنيكا 2006


1

يا عواصم الألم القديمة، أتذكّركن
في أفواه الأحصنة المُزْبدة؛ في الجرائم العبثية للضغائن الطفولية. الآن
ليلٌ كثيف يلتهم صلواتي. ولا أملك
شمعدان أمي ولا المفتاح المرمي في البئر، ولا كلباً
ينتظرني. منزلي الذي أضحى ملجاً للأشباح متروكٌ
في الصمت والرمل. واندثرت
أشجار ذلك الزمان بأوراقها العريضة المظلِّلة

لإخفاء عُرْيك.


2

المنزل أضحى ضريحاً. يحتلّه طامعون بلا القلب.
يبتهلون إلى مَحارِق مأتمية، إلى قتْل أطفال
وإلى عواصم الألم التي شيّدوها.
في الرعب ينتظر الناسُ
التصريحات والأخبار؛ القنابل الأخرى التي ستتركها
كما تترك حشرةٌ سوداء بيضها على أجسادهم. بينما
تمزّق النساء خدودهنّ، يبكين قرب الأنهار أطفالهن
يفككن أقمشة القدَر التي تمنحهنّ
استراحة داخل أحزانهنّ. عند المساء
تتهالك الأمهات المتعبات على الكنبات
وينمن فوراً. من علو يلوّح لهنّ
قمرٌ مدمّى. لكن لأولئك اللواتي يعشن ملتصقات بالتربة
يبدو غريباً.


3

ومع ذلك، أتذكّركن يا عواصم الألم القديمة
حين تسقطن، مقفَرات، في النسيان. صياحٌ يوقظ
الخزامى الطالعة من الأنقاض
والتي تتنبّأ بمجدٍ جديد للغزاة: سيعودون وعلى وجوههم
أقنعة الرعب،
منتمين دائماً إلى العصابة نفسها.
هكذا يأمر الإمبراطور
بإشارةٍ يزرع الهلع في شقاء حياتنا.

وبلا انقطاع سيرتفع الدخان من حقول الخراب.
وتتهالك الأمهات منتهيات.



جردة حياة هيدالغو دو لا مانشا


ليست المسألة أني فقدتُ الكثير من جرأة شبابي
بينما الكلاب تنبح عليّ
أو أن مأوى العجزة مفروضٌ عليّ في عمري هذا
حيث يحرسني
ممرّضٌ مضحك بمنطقٍ متخشّب

المسألة هي أن طواحين [هواء] حياتي أضحت عملاقة
بينما تتطاول فجأة جميع المسافات.
المسألة هي أن هذا العالم الباطل امتلأ فجأةً بالكتب الشبحية
وبمحرّكات لا تنطفئ
ساكباً النبيذ في الفم وربما قليلاً
على الثياب.

وحدتك

أبداً تعبر الجادّات نفسها،
وأبداً ترتدي نفْس الأسمال.

لهذا ترونني غالباً على أرصفة المترو
سائراً إلى الموت.



ليل


يا ليلاً لا ينتهي، يا حبّي الشفّاف
بأي شيءٍ آخر كان يمكنني أن أواجه جِراءك؟
بحصانٍ جَرِب، بأسلحةٍ سخيفة، بجسدٍ هزيل
كان يعذّبه ضوء القمر ودُفلاك؟
عشتُ من هذا اللا شيء تقريباً. أمين مخزنٍ وعتّال بحكم الحاجة، كاتباً
أبيات شعر لشواهد القبور
بلا حليبٍ مركّز للأطفال والجدران
باكياً العفن والعقارب.

وأنا، يا ليلا لدوداً، يا عشيقاً قاسياً
بأناشيدك الشعبية، وصَرَعك، ومستشفيات مجانينك الفقيرة،
أُهلِكُ نفسي وأُصبِحُ خطراً على الحياة التي لم أعشها ـ الآن
أتمدد عند مسارب المياه في الطرقات قرب الكلاب المقتولة وأنتظر
اعتراف الرب. وبلا انقطاع في خدري، أرى يد سرفانتس المقطوعة،
[وقد بعثتْ حيّة] تكتب.


ترجم القصائد عن الفرنسية أنطوان جوكي

المساهمون