بعد حادثة اقتحام مسلحين لمقرها، والذي أسفر عن 12 قتيلاً، تعيدنا الذاكرة إلى كلّ ما أنجزته أسبوعية "شارلي إيبدو" الفرنسية التي طالما اعتبرت أن حرية التعبير والتفكير بلا قيود. إنها عيّنة على تاريخ طويل يعيشه الغرب مثل حلم، ويستفيق منه أحياناً حين يعلم أن أطرافاً لا تشارك أطرافاً أخرى المعايير نفسها؛ ما تعتبره الجريدة "حرية مطلقة"، يعتبره آخرون مسّاً بالمقدسات واستفزازات مجانية. إن "شارلي إيبدو" قد دفعت مرّات عديدة ثمن التطرّف في حريات الرأي والتعبير، وأجبرها على دفع الثمن "متطرفون"، ولو بعد حين.
تعتبر "شارلي إيبدو" جزءاً من ظاهرة عامة في الساحة الصحفية الفرنسية، فالمجلات والجرائد الساخرة منتشرة منذ عقود في فرنسا، ويأتي على رأسها جريدة "لوكانار أونشيني". كما أن "شارلي إيبدو" نفسها تمثّل ثمرة في مسار تطوّر عرفته عدّة مجلات ساخرة قبلها، فهي سليلة عملية انشقاق حصلت سنة 1969 لثلاثة رسامين وصحفيين كانوا يشتغلون في جريدة ساخرة أخرى هي "هارا كيري"، هم فرانسوا كافانا، بروفيسور شورون، دالفايل دون تون، وأطلقوا على الجريدة الجديدة اسم "إيبدو"، مصنفين أنفسهم كجريدة يسارية انسجاماً مع ذلك المناخ الثوري المنتشر بين الشباب الطلابي بعد ربيع 68.
لم تكتف الجريدة بالرسومات الساخرة، وإنما كانت تطعّم مادتها من حين إلى آخر بتحقيقات ومقالات رأي جادة. فعرفت بالتالي نجاحاً مقبولاً، واستقطبت عدّة أقلام ورسامين لتبلغ درجة من النجاح جعل المشرفين عليها يفكرون في تحويلها إلى جريدة يومية في منتصف الثمانينيات، أطلق عليها اسم "شارلي ماتان"، لكنها سرعان ما استنزفت الطاقة المالية للمؤسسة الصحافية، وتوقفت عن الصدور.
أصرّ المؤسّسون أن تظل مجلتهم شركة مساهمة بين المشتغلين فيها، فلا تقبل الدعم الخارجي الذي لا شك أنه سيبعدها عن خطّها التحريري، بحسب تقديراتهم. كان الاتجاه السائد بين المحرّرين والرسامين هو البحث عن الإثارة، وفي نقد الأديان والمذاهب السياسية خميرة جاهزة لمثل هذا التوجه. ولعلنا حين ننظر في عموم أعداد المجلة بمختلف تسمياتها سنجد أن أهم المواضيع تمحورت حول الكاثوليكية (السخرية من البابا) والإسلام المتشدّد، أما على المستوى السياسي فكانت تيارات أقصى اليمين الموضوع الأثير لسخرية المجلة. لكن، لسوء حظّها، مثّلت كل هذه التيارات خزّانات عنف سرعان ما ستبدأ المجلة في دفع ثمن مشاكستها.
مع تغيرات العالم بنهاية الحرب الباردة في نهاية الثمانينيات، كان على المجلة اليسارية أن تجابه عاصفة داخلية. لقد بدأت موجة من الاستقالات انتهت بخروج كل المؤسّسين من المجلة، وأصبحت المجلة بالتالي بين يدي جيل جديد على رأسهم رسّام الكاريكاتير شارل فولنسكي الذي اقترح أن يتم إنشاء شركة جديدة تصدر المجلة باسم "شارلي إيبدو"، وهو ما تم بالفعل حين أنشئت شركة "كلاشينكوف". أليس من صدف التاريخ أن يستعمل سلاح الكلاشينكوف بالذات في المأساة الأخيرة التي راح ضحيتها 11 قتيلاً؟
لقد استرجعت المجلة مكانتها بسرعة بعد الأزمة، وحين عادت للصدور أسبوعياً باسم "شارلي إيبدو" سنة 1992، كانت صورة الغلاف كاريكاتيراً لفرانسوا ميتران، رئيس فرنسا آنذاك، يظهر فيها وقد وضع أمامه ملفات خطيرة مثل الأمن والتدهور الاقتصادي والتغوّل الأميركي، وهو يقول "وإلى جانب كل ذلك، عادت شارلي إيبدو".
قدرت المبيعات بـ 120 ألف نسخة أسبوعية في الأسابيع الأولى، غير أنها لن تتمكن من المحافظة على هذا الرقم طويلاً. فبعد ثلاث سنوات تقريباً ستجد نفسها مستقرة في رقم 55 ألف كمعدل أسبوعي. ثم في نهاية العقد الأول من القرن الجديد ازداد النزيف حدّة، وكان ضرورياً أن تبحث "شارلي إيبدو" عن الضجّة الإعلامية بأي ثمن للنفخ في رقم مبيعاتها، خاصة أنها تصرّ على مبادئها اليسارية في عدم البحث عن الدعم من رؤوس الأموال.
لعل بروز ظاهرة "الإسلام الجهادي" في بدايات هذا القرن قد جعل من الإسلام ثيمة مفضلة لدى المشرفين على المجلة. إلى حدود 2007 لم تحدث أي مشاكل من جراء ذلك، حتى بدأت المجلة تقترب من المقدسات الإسلامية وعلى رأسها تصوير النبي محمد في كاريكاتيرات. كانت الاحتجاجات وقتها تمرّ عبر قنوات القضاء الفرنسي. وفي 2011، انسحب أحد أهم المساهمين في رأس المال الصحفي فيليب فال، لتعرف "شارلي إيبدو" أكبر أزمة مالية على الإطلاق، اضطرتها إلى التخلي عن مقرها والتواجد في مقر متواضع.
في أواخر السنة ذاتها، شبّ حريق في المقر الجديد، واعتبر مفتعلاً. فانتقلت "شارلي إيبدو" ظرفياً إلى أحد مقرّات كبرى الجرائد اليسارية الفرنسية "ليبيراسون"، قبل أن تنتقل إلى المكان الذي حصل فيه الهجوم وكأنها كانت تتقدم خطوة بعد خطوة لمصير حتمي.
أما أقصى درجات الاحتجاج ضدّها، فكانت في خريف 2012 متزامنة مع موجة غضب المسلمين بسبب فيلم أميركي مسيء لنبي الإسلام. وقتها اضطرت السلطات الفرنسية على تأمين كل بعثاتها الديبلوماسية في العالم الإسلامي خشية تكرّر مأساة السفير الأميركي في ليبيا الذي قتل من قبل متظاهرين.
بدا ما أقدمت عليه "شارلي إيبدو" استفزازاً مجانياً، غير أنها كانت، في الحقيقة، مجبرة على خطوات مماثلة في التقاط المواضيع التي تشغل الناس، لتنقذ نفسها من أزمة مالية حادة. إن تلك الخطوة كانت من زاوية النظر هذه إحدى رقصات الديك المذبوح، غير أنه من وجهة نظر عملية يمكن اعتبارها ناجحة، فقد استردت المجلة رقم مبيعات يناهز 40 ألفاً أسبوعياً، كما أن اسمها عاد للتداول بقوة، بل إنها عادت رمزاً مبجلاً لدى متعصبي حرية التعبير في فرنسا.
في الجانب السياسي، يعتبر حزب "الجبهة الوطنية" في فرنسا بقيادة أسرة لوبان ألد أعداء فريق تحرير "شارلي إيبدو"، وقد تضاعفت هذه العدوانية مع صعود الحزب في السنوات الأخيرة في أرقام صناديق الاقتراع على حساب اليسار، حتى أن 2012 كانت سنة تجاذب قضائي مطوّل بين المجلة والمرشحة الرئاسية مارين لوبان. هذا ويتعرض الموقع الإلكتروني لقرصنة شبه دورية من حين إلى آخر، لعل أبرزها اختراق إسلاميين له، إذ وضعوا صورة الكعبة مكان شعار المجلة في تشرين الأول/ أكتوبر 2011 بعد أن استهزأت المجلة من صعود الإسلاميين إلى الحكم في تونس.
إن الحديث عن استفزاز مجاني لمشاعر المسلمين من قبل أسبوعية "شارلي إيبدو"، يعد وقوفاً على الجزء السطحي لهذه الظاهرة، ولا يمنحنا فرصة رؤية عمق المشكلة. إنها صحافة تحاول أن تكون جريئة وأن تسجّل حضورها بأي ثمن، لأنها تائهة في مضاربات السوق الصحافية الفرنسية، ولم تجد إلا الذهاب بعيداً جداً في حرية التعبير كطوق نجاة. إذاً، لم يكن الاستفزاز المجاني إلا آخر الوسائل للبقاء على قيد الحياة. أما ما يحصل من أعمال عنف ضدّها، فذلك هو الثمن الواجب دفعه حين يحرّك أحدهم "عش الدبابير المتطرفة".