في هجير صراعات السياسة والطائفية والعنف المحتدم، يلجأ مثقفو العراق إلى ما باتوا يشعرون أنه واحة تجمعهم كل أسبوع، في شارع المتنبي وسط بغداد، حيث تتراصّ مكتبات ودور نشر ومقاهٍ تجمع أدباء وفنانين كل يوم، إلا أن للجمعة فيه مذاقاً آخر، فأركانه وأرصفته تمتلىء بمثقفين وناشطين مدنيين وباحثين عن المعرفة من كلا الجنسين.
ويطلق بعضهم على الشارع، الذي يحتضن أقدم وأعرق مكتبات بغداد ومقاهيها، "مهرجان الجمعة الثقافي" أو "ملتقى المتنبي الأسبوعي". ويقع شارع المتنبي بالقرب من منطقة الميدان وشارع الرشيد، متّصلاً بمباني تاريخية وأثرية كالقصر العباسي، ومبنى القشلة الذي كان مقرّاً لحكم بغداد في العهد العثماني، وبيت المقام العراقي، وعدداً من البنايات الأخرى، فيما يقف تمثال أبي الطيب المتنبي في نهاية الشارع على شاطىء دجلة الشرقي.
علي الربيعي شاب يعزف على آلة العود يقصد الشارع صباح كل جمعة ويتّخذ فيه ركناً ليعزف ويغني أغانيَ وطنية وعاطفية تعود إلى حقبة السبعينيات وما بعدها، يقول علي إن هذا الملتقى أصبح بالنسبة له وللعديد من الفنانين الشباب بمثابة متنفس.
على بعد أمتار منه يتحلّق أشخاص حول شاعر يلقي قصيدة يهجو فيها طبقة "الساسة الفاسدين" الذين لم يقدموا للشعب سوى الأكاذيب على حد قوله، وليس ببعيد عنه فنانون تشكيليون يتجمعون حول لوحاتهم، يعبرون من خلالها عن تذمرهم من الأوضاع السائدة في البلد. أما مقاهي الشارع والتي يعود بعضها إلى العهد الملكي كمقهى "الشابندر" فتحتضن أدباءً وفنانين ومثقفين يجمعهم الهم العام كل يوم، والعديد من هؤلاء هم من كبار السن المخضرمين الذين عاصروا الأحداث والتحولات التي مرت بالبلاد منذ سقوط النظام الملكي عام 1958.
أبو فهد يساري سابق كان من المعارضين للنظام السابق وما قبله، انتهى به الزمن إلى زبون دائم للمقهى لا يكاد يغادره إلا للضرورة، يقول وقد أنهك جسده المرض إن شارع المتنبي "كان بؤرةً للإبداع منذ تأسيسه، ومركزاً للحراك الثقافي الذي واجه عنف السلطة وعسكرتها، إلا أن محاولات المثقفين هذه باءت بالفشل، بعدما زاد قمع السلطة واتسعت الفجوة مع الجماهير".
ويشاطره الرأي صاحبه أبو سلوان إلا أنه يعتبر ما يقوم به الشباب اليوم من أنشطة ثقافية فيه وخاصة يوم الجمعة يعيد للشارع دوره الذي فقده في السنوات الأخيرة.
ورغم احتضان الشارع للعراقيين بمختلف أطيافهم وميولهم السياسية، إلا أن بعضهم يشير إلى أن الناشطين الذين يتواجدون فيه يغلب عليهم الطابع اليساري سواءً كانوا من المنتمين السابقين أو الحاليين للحزب الشيوعي العراقي وسواه، والذي يرى في برامج واتجاهات الأحزاب الدينية التي تحكم العراق حالياً خطراً على وحدة العراق ومستقبله.
لكن العديد من ناشطي الشارع ومرتاديه يؤكدون عدم انتمائهم إلى تيار سياسي بعينه، وإن كان الشيوعيون هم الأكثر حضوراً ونشاطاً فيه، حيث شاركوا في تظاهرات ساحة التحرير التي انطلقت في 25 شباط/ فبراير 2011 وما تلاها، ولا زالوا يقيمون مظاهرة رمزية كل أسبوع تنديداً بما يعتبرونه فساداً حكومياً وقمعاً للحريات.
ويبدو هذا المهرجان فسحة ومتنفساً لعدد من الناشطات النسويات اللاتي يشتكين ما يعتبرنه غلبة للثقافة الذكورية في المجتمع، إذ تشكل النساء بمختلف أعمارهن نسبة معتبرة ممن يرتادون هذا الملتقى الأسبوعي، دلال علوان واحدة منهن، تقول إنها تحرص على الحضور هنا أسبوعياً لممارسة دورها في المجتمع كمثقفة ورئيسة لمنظمة تعنى بالدفاع عن حقوق النساء المعنّفات، ولتنظيم وقفات احتجاجية ضد قوانين تعتبرها تعسفية بحق المرأة، كمشروع قانون الأحوال الشخصية "الجعفري" الذي طرح مؤخراً وأثار جدلاً كبيراً في الشارع العراقي.
ويعد شارع المتنبي أكبر سوق للكتب والمطابع في بغداد والعراق، وقد تعرض في شهر آذار/ مارس 2007 لتفجير سيارة ملغمة أدت إلى مقتل أكثر من ثلاثين شخصاً وتدمير عدد من المكتبات والمباني الأثرية فيه. ما أورثه تحرزات أمنية ما زالت تحيط بالشارع الذي يجهد في التقاط أنفاسه تحت أنظار شاعر العرب الشاخصة إلى البعيد.