سينما الانتهاكات الجسدية: أصوات الناجين

27 نوفمبر 2019
من فيلم بوكين: لغة الملامح والوجوه (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
مع بدايات انتشار السينما في العالم بشكل حقيقي، أدركت السلطات مدى قدرتها على التأثير والسطوة الفكرية التي تمارسها على الناس، فجرى استغلالها دائما، بإنتاج أفلام وُصفت بالـ"بروباغندا"، ومنها أفلام الثورة الروسية، كـ"المدرّعة بوتمكين" (1925) لسيرغي أيزنشتاين، وأفلامه الأخرى عامة، وأفلام الوزارة الدعائية لغوبلز، في عهد أدولف هتلر، وفيلمي "انتصار الإرادة" (1935) و"الأوليمبياد" (1938) لليني ريفنستال، وغيرها. 
لم تتوقّف أفلام الدعاية عن إنتاج أعمال مختلفة في أيّ لحظة، خلال العقود التالية. غير أنّ الفرق الإيجابي، في اللحظة المعاصرة، كامنٌ في وجود مساحة لأفلام دعائية، تروّج لأفكار محدّدة بشكل مباشر، بسردية الضحايا لا السلطات، في محاولة لجعل العالم أكثر انتباها وحساسية إزاء ما يحدث من انتهاك وقسوة.

فيلمان وثائقيان جديدان، عُرضا في الدورة الـ12 (6 ـ 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019) لـ"بانوراما الفيلم الأوروبي" في مصر: الأول بلجيكي بعنوان That Which Does Not Kill لألِكس بوكين، والثاني فرنسي بعنوان Zero Impunity، لنيكولاس بيلز.

عنوان الأول مستلٌّ من جملة مشهورة لفريدريك نيتشه: "ما لا يقتلك يجعلك أقوى". يسرد حكايات متفرّقة لنساء مُغتَصبات، ويملكن شجاعة الوقوف أمام الكاميرا، للتحدّث عمّا مررن به. تُدرك بوكين أنّ المصدر الأساسي لأهمية فيلمها مُستمدّ من حكاياتهنّ، وأيضا من ملامحهنّ ووجوههنّ ومواجهتهنّ الكاميرا، ما جعلها متطرّفة في جعل عملها Talking Heads Documentary، بأكثر الاشكال كلاسيكية: جلوس كلّ سيدة أمام الكاميرا لتحكي، من دون تلاعب سردي أو بصري، ومن دون تشتيت أو مصدر قوة آخر غيرهنّ، ومن دون استخدام موسيقى تصويرية. قرار أيديولوجي صارم وشديد الاحترام، فالهدف ليس أن يكون الفيلم ممتعا أو مدغدغا للمشاعر أو باعثا على الأسى، بل الاحتكاك المباشر مع قسوة تجاربهنّ، وإدراك أنّ تناول التجارب أمام العالم غير كافٍ للتعافي منها. 
الفيلم الثاني وثائقي مشغول بتقنية الرسوم المتحركة، يروي حكايات مختلفة عن الانتهاك الجنسي زمن الحروب. سبب استخدام الرسوم كامنٌ في حماية خصوصية الضحايا، فبعضهم لا يزال يُقيم في خطر، أو لأنّ بينهم أطفالا. يوازن الفيلم، بذكاء، بين حكاياته المنتمية إلى مناطق صراع مختلفة، لدعم فكرته، من دون الوقوع في فخّ المواقف أو الصراعات السياسية؛ ويصدم مشاهديه أحيانا بخصوص أخلاقيات التعامل مع سجناء سياسيين، للحصول على معلومات، علما أنّ إحدى شخصياته محقّق سابق في معتقل "غوانتانامو"، الذي شهد تحقيقات مع متهمين بأحداث "11 سبتمبر" (2001)، وتعرّضهم للتعذيب والانتهاكات بأشكالها المختلفة. كما يواجه الفيلم تساهل المؤسّسات والسلطات، وبينها الأمم المتحدة، في موضوع حماية الحقوق الإنسانية، وتجزئة المواقف حين يتعلّق الأمر بمعتقلين متّهمين بأعمال إرهابية.

رغم ما يتصادم فيه إزاء تلك الأزمة الإشكالية (تحديدا مع اليمين الأميركي)، فإنّه يمدّ الخَطّ بحكايات أخرى، أكثر تأثيرا، كحكايتي فاطمة، عن اختطاف ابنتها نورا (11 عاما) وتعذيبها في الحرب السورية، وأليسيا، المتعرّضة لانتهاك جسدي، أثناء النزاع المسلّح في "دونباس" الأوكرانية، وغيرهما من الحكايات المختلفة، جغرافيا وأيديولوجيا، والمتشاركة بالبعد الذكوري الوحشي، الذي يكسر الروح الإنسانية بالانتهاك الجنسي.

في عالمٍ كهذا، تحاول السينما أنْ تفعل أيّ شيء، ولو بإيصال أصوات الناجين.
المساهمون