تعيش محافظة إدلب حالة ترقب واستنفار على المستويين العسكري والشعبي، تحسباً للتطورات في المحافظة خلال المرحلة المقبلة بعد تهديدات متكررة من النظام السوري وإيران، وتلميحات روسية بقرب شن عمل عسكري على المحافظة بعد إحكام النظام سيطرته على الجنوب السوري. وتعمل روسيا والنظام السوري على تغذية الشعور بالقلق لدى سكان المحافظة الذين يناهزون ثلاثة ملايين شخص بهدف تشكيل حالة ضغط على الفصائل العسكرية فيها، والتي أعلنت عن توحيد صفوفها في كيانات عسكرية جديدة لصد أي عدوان محتمل، في حين يسود رهان على موقف تركيا للجم أي نيات للتصعيد من جانب النظام وروسيا باتجاه محافظة إدلب التي تعتبر بطريقة ما ضمن "النفوذ التركي"، وخاضعة لاتفاق "خفض التصعيد" بين تركيا وروسيا وإيران.
في هذا السياق، اعتبر وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أمس الخميس، أنه "يجب القضاء على الإرهابيين في إدلب بالتزامن مع حل مسألة عودة اللاجئين إلى سورية". وقال لافروف للصحافيين، إن "العمل يجري على قدم وساق، ولا يزال هناك الكثير للقيام به، وبالتزامن مع القضاء على الإرهابيين الذين ما زالوا في إدلب على وجه الخصوص".
وفي خضمّ هذا، بدا موقف "هيئة تحرير الشام" وكيفية التعامل معها من جانب الفصائل وتركيا، هو كلمة السر في نزع الذريعة من يد روسيا والنظام لاستهداف المحافظة باعتبار الهيئة مصنّفة من جانب مجلس الأمن كمنظمة إرهابية، و"يحل" بالتالي استهدافها عسكرياً. وهي معضلة تفيد تقارير عدة بأن تركيا تحاول منذ بعض الوقت معالجتها سلمياً عبر إقناع الهيئة بحل نفسها، وإذا لم ينجح ذلك، فقد يكون الخيار الأخير هو مواجهتها عسكرياً عبر الفصائل الأخرى في المحافظة المدعومة من تركيا.
ولعل إعلان فصائل المعارضة في المحافظة وشمال غربي سورية توحيد جهودها، واندماجها في تشكيل جديد تحت مسمّى "الجبهة الوطنية للتحرير"، هو خطوة في هذا الاتجاه، أي تشكيل قوة ردع للجم النظام وروسيا عن التفكير بعمل عسكري، ومواجهة هذا العمل إن تم، من جهة، وتشكيل قوة قادرة على مواجهة "هيئة تحرير الشام" في حال رفضت حل نفسها، من جهة أخرى.
ويضم التشكيل الجديد كلاً من "جبهة تحرير سورية"، و"ألوية صقور الشام"، و"جيش الأحرار" و"تجمع دمشق"، بقيادة القائد العام لـ"فيلق الشام"، فضل الله الحجي. وحسب مصادر مطلعة فإن قوام "الجبهة الوطنية للتحرير" يصل إلى أكثر من 40 ألف مقاتل ينتشرون في محافظة إدلب وريف حماة الشمالي وريف حلب الغربي وريف اللاذقية الشمالي.
ومع التشكيل الجديد تنقسم الساحة بشكل رئيسي بينه وبين "هيئة تحرير الشام " إضافة إلى بعض الفصائل الأصغر حجماً، والتي يقف معظمها في موقع أكثر تشدداً من "تحرير الشام" مثل تنظيم "حراس الدين" الذي يضمّ بقايا فصيل "جند الأقصى"، وتنظيمات جهادية تابعة لـ"القاعدة" ومنشقة عن "هيئة تحرير الشام"، إضافة إلى "الحزب التركستاني".
وتراهن "تحرير الشام" على أن هذه الفصائل ستقف إلى جانبها في حال اندلاع مواجهات مع الطرف الآخر، رغم التزامها الحياد في جولات القتال السابقة، تحديداً الحزب التركستاني، الذي أعلن أنه لن يكون أبداً طرفاً في أي "اقتتال" محلي، إلا في حالة الدفاع عن النفس.
وفي تقييمه لهذه الخطوة، قال المحلل العسكري العميد أحمد رحال في حديث لـ"العربي الجديد"، إنه "وإن كانت أي خطوة تهدف لتوحيد قوى الحراك المسلح تستحق الدعم والترحيب، لكن كنا نتمنى أن يرافق ذلك تصحيح الأخطاء السابقة التي أبعدت جهود الضباط المنشقين وعناصرهم عن مفاصل الثورة". وعبّر رحال عن خشيته من أن "ما يجري قد يكون مجرد إعادة تدوير للأجسام العسكرية بالأدوات والأجندات والعقلية نفسها، وكذلك الأخطاء نفسها، فقط نحصل على اسم جديد، لنعود ونجني النتائج نفسها".
في غضون ذلك، أشارت المعطيات إلى أن "النظام يحضر بالفعل لعمل عسكري في تلك المنطقة". وقد تمكنت فصائل المعارضة أمس الخميس، من صد هجوم لقوات النظام والمليشيات المساندة لها، على جبهة خلصة بريف حلب الجنوبي، حيث دارت اشتباكات عنيفة بين الطرفين، بعد أن بدأت قوات النظام هجومها على شكل تسلل تبعه اشتباكات بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة. وتشنّ المليشيات الإيرانية هجمات عسكرية بين الفينة والأخرى، على قرى وبلدات ريف حلب الجنوبي، رغم وجود القوات التركية ضمن نقطة المراقبة في تل العيس جنوب حلب. وينتشر حزب الله اللبناني والمليشيات الإيرانية المتفرقة في ريف حلب الجنوبي بشكل كبير، لا سيما في منطقة جبل عزان والتلال المحيطة به.
ومع تواصل القصف اليومي تقريباً من جانب قوات النظام على مناطق متفرقة من المحافظة، إضافة إلى ريف حماة الشمالي، لوحظ أن هناك تحركات عسكرية على جبهات جبلي الأكراد والتركمان في ريف اللاذقية الشمالي، في إشارة إلى تحضير عسكري لمعركة مقبلة في المنطقة. وعزز هذا الرأي تكثيف قوات النظام قصفها مواقع فصائل المعارضة من مرابض المدفعية التي تم تثبيتها أخيراً قرب خطوط التماس.
وتأخذ فصائل المعارضة بعين الاعتبار هذه التحضيرات، وتعمل على زيادة التنسيق العسكري فيما بينها، ووضع خطط تكتيكية لوقف أي تقدم على محاور الجبهات الممتدة من أطراف جبل التركمان في ريف اللاذقية الشمالي الشرقي مروراً بسهل الغاب في ريف حماة الشمالي الغربي وصولاً إلى مورك، بالقرب من خطوط التماس في ريف حماة الشمالي، مع تثبيت نقاط دفاعية حصينة على الشريط الممتد من على أطراف سكة حديد الحجاز انطلاقاً من مورك حتى الراشدين جنوب غربي حلب.
ورجح محللون عسكريون اندلاع معركة محدودة جغرافياً، في الريف الشمالي الشرقي لمحافظة اللاذقية والمرتفعات الجبلية المطلة من الجهة الغربية على مدينة جسر الشغور. وقد اتخذت فصائل المعارضة هناك خطوات عملية لمواجهة هذا الاحتمال من بينها تشكيل غرفة عمليات مشتركة للفصائل العاملة في تلك المناطق، وتنظيم محاور القتال وتدعيمها بالمقاتلين والعتاد العسكري بمختلف أنواعه.
ونظراً لصعوبة القتال المتوقع في إدلب المزدحمة بعشرات آلاف المقاتلين، فضلاً عن التعقيدات السياسية المرتبطة بالموقف التركي، فإن النظام وروسيا قد يركزان الضغط العسكري على تلك المنطقة، أي شمال اللاذقية وغرب إدلب نظراً لقربهما من تجمّعات النظام وقاعدة حميميم الروسية في اللاذقية، والتي تعرضت في الآونة الأخيرة لهجمات متكررة بالطائرات المسيّرة التي ذكرت روسيا أنها "تنطلق من مناطق المعارضة السورية في تلك المنطقة".
وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تحدث قبل أيام مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وحذره من أن "استهداف المدنيين في إدلب قد يدمر روح اتفاق أستانة". وقال مستشار الرئيس التركي ونائبه في حزب "العدالة والتنمية"، ياسين أقطاي: "لن يجرؤ النظام على الهجوم على إدلب، والقضية ستُبحث بلا شك خلال لقاء الرئيسين التركي والروسي المرتقب نهاية الشهر الحالي. كما أن الرئيس أردوغان حذر الرئيس بوتين من هذه الخطوة على مسار المفاوضات في أستانة، والتي تعني في حال حصولها تقويض هذا المسار ونهايته".
وردد أكثر من مسؤول تركي أن إدلب "خط أحمر" بالنسبة لتركيا، وأعربوا عن اعتقادهم بأن روسيا سوف تتمسك باتفاقية خفض التصعيد. ومن المعروف أن تركيا نشرت خلال الأشهر الماضية العديد من نقاط المراقبة في المنطقة التي يتمركز فيها آلاف الجنود الأتراك، إذ بذلت أنقرة جهوداً كبيرة في ترسيخ وجودها في الشمال السوري. وهي غير مستعدة للتخلي عن هذه المناطق التي ترى فيها عمقاً استراتيجياً لمواجهة ما تراه تهديداً كردياً على طول حدودها. وتعمل على تنظيم المناطق الواقعة تحت نفوذها من خلال إرساء نظام حكم جديد، وتقديم خدمات أساسية، وإصدار بطاقات تعريفية لمواطني تلك المناطق.
وذكرت الأنباء، أمس الخميس، أن القوات التركية بدأت في تحصين نقطة المراقبة التابعة لها قرب مدينة مورك شمال حماة، بالجدار الإسمنتي، ودخلت في الأيام القليلة الماضية شاحنات تركية محملة بالخرسانة الإسمنتية، بالإضافة إلى غرف مسبقة الصنع، إلى الأراضي السورية. وسبق أن قامت القوات التركية بوضع سور حول نقطة المراقبة في منطقة الصرمان، جنوب شرقي إدلب، بالإضافة إلى التمهيد لبناء مستشفيات ومهابط طيران في بعض نقاط المراقبة.
ورأى مراقبون أنه "في حال دعمت روسيا مغامرة النظام في إدلب، فستدخل مأزقاً عسكرياً وسياسياً كبيراً، إذ ينتشر في تلك المنطقة نحو مائة ألف مقاتل من المناوئين للنظام، اضافة الى آلاف الجنود الأتراك، ما يجعل المعركة مرشحة للتوسع في كل الاتجاهات".