سيناء وإرهاب عابر للحدود
سيناء الجزء العزيز من أرض مصر، والذي لا يعرف عنه أغلب المصريين الكثير، هي جزء أصيل من إقليم مصر التاريخية، عبر آلاف السنين، وهي الجزء الشمالي الشرقي لمصر ولقارة أفريقيا، والجزء الجنوبي الغربي لقارة آسيا، وحدودها ثابتة، لم ولن تتغير، من رفح على البحر المتوسط وحتى طابا. وفي التاريخ الحديث، عندما تولى محمد علي ولاية مصر في عام 1805، وقام بتنظيم مصر إدارياً في شكل مديريات ومحافظات، في عام 1810، جعل سيناء محافظة باسم محافظة العريش، وإذا رجعنا إلى التاريخ القديم، نجد واقعة شديدة الأهمية والدلالة أيضاً، عندما طارد أحمس الهكسوس عبر سيناء، ولاحقهم في المرحلة الأخيرة خارج حدود مصر، وقام بمحاصرتهم في حصن غزة ثلاث سنوات، قفل عائدا بقواته إلى مصر حتى عبر الحدود عند رفح فلسطين، وأقام معسكره في رفح مصر، وبدأ منها احتفال الجيش المصري بالانتصار.
سيناء تشغل مساحة ٦٪ من أرض مصر (٦٢ ألف كلم مربع)، وتشغل 30% من سواحل مصر البحرية على البحر المتوسط وخليج السويس وخليج العقبة. هذه البقعة الفريدة من أرض مصر لا يعيش على أرضها، وطبقاً لآخر التقديرات، سوى 597 ألف مواطن! منهم ما يقرب من 10- 15% من محافظات أخرى، مع تنمية محدودة، شبكة طرق محدودة، خدمات محدودة. وهذا كله في ظل حدود ذات طبيعة خاصة، صحراوية ممتدة، نادرة السكان مع العدو الإسرائيلي، حوالى 250 كلم وحدود مع قطاع غزة في منطقة رفح بامتداد 13,8 كلم، والطرق المؤدية إلى سيناء، بحرياً ميناء العريش في الشمال ونويبع في الجنوب، وجوياً مطارات العريش وشرم الشيخ والطور وسانت كاترين، وبريا في الشمال كوبري الفردان للسكة الحديد وكوبري السلام ومعديات القنطرة وبور فؤاد. وفي الجنوب، نفق الشهيد أحمد حمدي ومعدية الشط. تلك هي سيناء التي تتصدر، وعن حق، المشهد المصري، وبالتحديد منذ عام 1956، عندما سقطت في براثن الاحتلال الإسرائيلي، في إطار العدوان الثلاثي على مصر، وتم إجبارها على الانسحاب في عام 1957، مع وضع قوات طوارئ دولية في شرم الشيخ، لضمان حرية الملاحة في مضايق تيران، ونقاط مراقبة دولية على امتداد الحدود، ثم هزيمة يونيو 1967، واحتل العدو الإسرائيلي سيناء وكل الأراضي الفلسطينية في غزة والضفة، والجولان السورية ومزارع شبعا اللبنانية.
وخاضت مصر حرب استنزاف طويلة "حرب الألف يوم" وحرب أكتوبر 1973، واقتحام قناة السويس وخط بارليف، ثم أدارت عملية تفاوض صعبة وطويلة، يتفق بعضهم معها، ويختلف معها آخرون، انتهت بانسحاب العدو من سيناء في 25 إبريل/نيسان 1982، طبقاً لمعاهدة السلام، وبقيت مشكلة خاصة بطابا، تم حلها لصالح مصر، وانسحب منها العدو في 1989. ومنذ ذلك التاريخ، كانت تحكم الإجراءات الأمنية على امتداد المنطقة الحدودية الشمالية الشرقية مع العدو الإسرائيلي ضوابط معاهدة السلام وملحقها الأمني، بحكم سيطرة العدو الإسرائيلي على كامل امتداد حدود الأرض المحتلة، بما في ذلك قطاع غزة. وكانت هناك مشروعات طموحة لتنمية سيناء وتعميرها وربطها بالوادي، وفى هذا الإطار، تم إنشاء نفق الشهيد أحمد حمدي، وترعة السلام، وكوبري السلام، ومشروع السكة الحديد، وتنمية ساحل العريش ووسط سيناء، وسواحل خليج السويس وخليج العقبة، وإنشاء ميناء نويبع وربطه بميناء العقبة الأردني. ولكن، للأسف الشديد، كل هذه المشروعات عانت من عملية تباطؤ كبيرة، ولم يتحقق منها إلا النزر اليسير، لعل أهمه كان في جنوب سيناء، وما يتعلق بالجوانب السياحية، وبقيت سيناء منطقة فراغ سكاني، وقصور تنموي كبير، وهو ما يشكل مخاطر تحولها إلى بيئة حاضنة لأي تنظيمات مسلحة، سواء كانت عصابات جريمة دولية منظمة لتهريب البشر والسلاح والمخدرات، أو تنظيمات جهادية متطرفة، أو ملاذاً آمنا للخارجين على القانون. ثم حدث التطور الرئيسي في الموقف في سيناء، اعتباراً من عام ٢٠٠٥، عندما قرر شارون الانسحاب الأحادي من قطاع غزة، وأصبحت المنطقة الحدودية في رفح بامتداد خط الحدود مع مصر في عهدة السلطة الفلسطينية، وـحكم الحركة من وإلى قطاع غزة اتفاقية المعابر بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل والاتحاد الأوروبي، ومنها معبران عبر مصر، هما معبر رفح، وكرم أبو سالم، الأول للأفراد والثاني للبضائع.
لكن التطور الدراماتيكي الأهم حدث مع الانقسام الفلسطيني، إثر فوز حماس في الانتخابات التشريعية، وتطور الموقف إلى صدام مسلح، انتهى بما عرف وقتها بالحسم العسكري وسيطرة حماس على القطاع (2007). وعند هذا الحد، تعطلت اتفاقية المعابر، ونشأت مشكلة جديدة شديدة الحساسية، وهي مشكلة الأنفاق. وزاد من تعقيد الأمور العدوان الإسرائيلي المتواصل والمتكرر على قطاع غزة، وأكبرها عملية الرصاص المصبوب، 2008/2009، وآخرها عملية الـ51 يوماً خلال الصيف الماضي.
هذا على الجانب الفلسطيني من الحدود التي لا تتجاوز ١٣،٨ كلم، أما على الجانب المصري فقد جرت تطورات حادة، بدأت باتهامات إسرائيلية أميركية مبكرة، بأن الأنفاق هي مصدر تهريب السلاح إلى غزة، وعلى مصر إغلاقها. وقدمت أميركا دعماً مادياً وفنياً لذلك. خصوصا عام 2009 في محاولة لإقامة جدار فولاذي عازل، بامتداد خط الحدود مع غزة، وفشلت الفكرة. ثم جرى في مصر ما جرى على امتداد السنوات الأربع الأخيرة، وكان حظ سيناء عمليات عنيفة، بدأت بتفجير خط الغاز بشكل منتظم، ثم تطورت العمليات إلى صدام محدود مع الكمائن ونقط المراقبة، ثم حدثت نقلة نوعية في رمضان/ يوليو 2012، في عملية إرهابية نوعية، استهدفت موقعاً لقوات حرس الحدود على شريط رفح بين معبري رفح وكرم أبو سالم، وتلتها عمليات متفرقة ضد دوريات وكمائن وناقلات جند. ولكن، جاءت عملية الشيخ زويد، الشهر الماضي، والتي راح ضحيتها 31 شهيداً وحوالي 30 مصاباً من أبنائنا في القوات المسلحة، لتعيد إلى المشهد العمليات الإرهابية ذات الطبيعة الاحترافية، ليس مجرد وضع عبوات ناسفة على الطرق أو إطلاق نيران على كمائن، ولكن بسيارات مفخخة وانتحاريين، وتخطيط مبنيّ على معلومات دقيقة، وملاذات آمنة، بعد التنفيذ، وبالطبع تمويل كبير.
ماذا يجري في سيناء؟ وهل يمكن فصله عما يجرى في المنطقة التي تسودها حالة من الاضطراب الشديد، سواء في الجوار المباشر أو غير المباشر لمصر، في ليبيا، وسورية، والعراق، واليمن، وتداخل كل تلك المناطق وامتداداتها براً وبحراً؟ ودور وتحركات القوى الدولية ذات المصالح في المنطقة، والتي قطعاً لا تتوافق مع مصالح شعوبنا؟
ألا يدعونا ذلك إلى استشعار الخطر الحقيقي الذي يحيط بنا، ويدفعنا إلى وقفة جادة، نتخلى فيها عن الاستقطاب، ونذهب إلى كلمة سواء، قبل أن يدهمنا طوفان الإرهاب العابر للحدود الذي لن ينجو منه إلا من رحم ربي.