لم يكن أديب فرنسا الكبير، فيكتور هوغو (1802 - 1885) مضطرّاً إلى الانخراط في قضايا سياسية، أو الدفاع عنها. لم يكن سليل عائلة فقيرة، كان ينتمي إلى عائلة ميسورة، ولا مبرّر لديه للانقلاب على وليّ نعمته؛ النظام الملكي، على الأقل بسبب ما يتمتّع به من امتيازات. كان يتلقّى راتباً شهرياً من ملك فرنسا نابليون الثالث، ويتمتّع بحظوة في البلاط، حتى أنه لو أراد وزارة التعليم ما امتنعت عليه، لذلك يبدو من الغرابة أن ينضمّ إلى صفوف الجمهوريين المعادين للملك وطبقة النبلاء، وأن يصبح من أشد أنصار النظام الجمهوري الذي يدعو إلى المساواة بين المواطنين.
ما الذي يجعل أديباً يُعد من أنصار القيم المحافظة والمسيحية، ومرتبطاً بالنظام الملكي ومستفيداً منه، يغيّر موقفه، وينتقل إلى صفوف الطبقات الدنيا من المجتمع؟ يُقال إن هوغو اكتشف فجأة أحوال الطبقة العاملة في شمال فرنسا فهاله وضعها المزري. فكان انقلابه المفاجئ على أفكاره السابقة، والتحاقه بالمعارضة السياسية، لكن تحرياً للدقة، بدأ انشقاق هوغو عن المحافظين مبكراً عندما ألقى خطابه المشهود بعد انتخابه في الجمعية الوطنية، وفيه دعا إلى إنهاء البؤس والفقر.
وفي خُطب أخرى سيدعو إلى الاقتراع العام والتعليم المجاني. بينما سيطرح الدعوة إلى إلغاء عقوبة الإعدام على مستوى العالم، وتلازمه الفكرة على الدوام. في ذلك الوقت، كتَب في دفتر مذكراته: "سوف أظل رجل الحقيقة، رجل الشعب. وليس لدي أي طموح أن أكون وزيراً".
قام نابليون الثالث، بعد الاستيلاء على السلطة عام 1851، بإلغاء مكتسبات الثورة الفرنسية بدستور كان مضاداً للبرلمان. فاتهمه هوغو صراحة بخيانة فرنسا، هرب بعدها من باريس إلى بروكسل، وخاطب الشعب الفرنسي بكتاب نشره ضد الدكتاتورية: "أيها المواطنون الأعزاء؛ لويس بونابرت شخص خارج القانون. لويس بونابرت شخص خارج على البشرية، هذا المجرم منذ عشرة أشهر يتسلّط على فرنسا. من حقكم بل ومن واجبكم أن تتمرّدوا على هذا النظام. كان الله في عونكم".
ضغطت الحكومة الفرنسية على الحكومة البلجيكية، وطلبت منها طرده. اضطرت حكومة بلجيكا للامتثال للطلب، بعدها عانى هوغو في جزيرة إنكليزية عذاب المنفى مدّة عشرين عاماً، من هناك سيدعو إلى العصيان المسلّح والتمرّد على السلطة، كما سيطالب بالعفو التام عن مناضلي كومونة باريس، معتبراً أن الموقف العادل يقتضي مساندتهم، مع أن الغالبية العظمى من أدباء فرنسا أدانوهم. في الحقيقة، لو لم يكن هوغو قد أصبح في مأمن لا تطاله يد الديكتاتور، لكانت عقوبته الموت.
مثّل هوغو في زمانه رجلاً مفرداً، ولم يكن أقل من فيلق من الثوّار في نزاعه ضد الدكتاتورية. تبنّى قضايا كانت على حجم شهرته وموهبته ككاتب، أنتج روائع من الشعر والمسرح والرواية. وكان أعظمها روايته "البؤساء"، كتبها في المنفى، عاشت لتخاطب النزوع الكامن والراسخ في البشر إلى العدالة. ومنذئذ، أُعيد طبعها مئات المرّات وبمختلف اللغات، وصُوّرت عدة مرات للسينما والتلفزيون.
في زماننا هذا، ليس الكاتب والمثقف مفرداً ولا وحيداً، أصبح صوته مسموعاً ومشكوكاً فيه، وكان التساؤل، إلى أي جانب يقف؟ ففي "الربيع العربي"، انطلقت الملايين في الشوارع رافضة الدكتاتوريات، واختار الكثير من المثقفين الوقوف إلى جانب الاستبداد، كان التزامهم بالدكتاتورية لا بالحريات تحت عناوين علمانية ويسارية وليبرالية ودينية، وكانت أسبابهم تحريفاً للعناوين نفسها، تُخليهم حسب ظنّهم من المسؤولية، فتلاقوا مع مثقّفي عتاة الرجعيات العربية التي طالما شهّروا بهم.
اليوم بعيداً عن الجعجعة، مع من يقف المثقف الزائف، وإلى ماذا يطمح؟ لم يعد هذا غامضاً.