سياسات ترامب والمجتمع المدني الأميركي

07 فبراير 2017

حشد من النساء يتظاهرن ضد ترامب في بورتلاند (21/1/2017/الأناضول)

+ الخط -
يصدر أستاذ علم الاجتماع السياسي الأميركي، تشالز كورزمان، بين فينة وأخرى، نتائج من دراسته المستمرة بشأن تورط المسلمين - الأميركيين في أعمال العنف، وهي دراسة مطولة نشرت بعض نتائجها في أكثر من صحيفة أميركية في السنوات الماضية، أهمها ما نشر بمناسبة مرور عقد على أحداث "11 سبتمبر"
نشر كورزمان، أخيراً، نتائج دراسته الخاصة بسنة 2016، والتي تبين أن القرارات التي اتخذها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بمنع مواطني سبع دول إسلامية من دخول الولايات المتحدة غير مبنية على أي أسس واقعية. وهو يفيد بأن ضحايا "الإرهاب الإسلامي" في أميركا في العام الماضي هم 54 شخصاً، والعدد الأكبر منها هو 49 شخصا راحوا ضحية حادثة الإرهاب في المقهى الليلي في مدينة أورلاندو. ورصد الباحث رقما أكبر بكثير، وهو أحد عشر ألف ضحية لأعمال العنف المسلح في أميركا، ولا علاقة لها بـ "الإرهاب الإسلامي". ولا يشير ترامب بتاتا إلى هويات منفذي هذه العمليات الإجرامية في أي من خطاباته.
وأكد كورزمان، في الدراسة نفسها، أن المسلمين الأميركيين المنحدرين من الدول التي حظر دخول مواطنيها إلى أميركا، لم يتورّطوا بالقيام بأعمال إرهابية على الأراضي الأميركية سابقاً، ما يجعل القرار غير واقعي وغير منطقي. تنفي هذه المعطيات والأدلة بشدة واقعية القرارات الارتجالية للرئيس ترامب، والتي ينتفض المجتمع المدني بأطيافه كافة اليوم ضدها، باعتبارها سياسات تمييز عنصري. وقد بدأت مؤسسات من المجتمع المدني بالتكتل لأخذ مسار جديد يخالف السياسة الأميركية الحالية، حيث، على سبيل المثال، أقامت كنائس تحالفات ضد قرار
ترامب بالسماح بدخول المسيحيين اللاجئين من الدول السبع، باعتبار ذلك نوعاً من التمييز العنصري. وهنا تأتي واقعية المجتمع المدني، في ارتباطه بالأحداث الحالية، حيث المجتمع المدني هو الرئة الحية للمجتمع التي ربما تضعف، أحيانا، لكنها لا تموت.
هذا ما حدث مع الكنائس في فترة الستينيات من القرن الماضي، حيث كانت كنائس الجنوب الخاصة بـ الأميركيين الأفارقة المعقل الأساسي لحركة الحقوق المدنية، التي سيرت المظاهرات وأطاحت قانون التمييز العنصري. وحالياً تعود بعض منها إلى المشهد للتضامن مع اللاجئين، احتجاجاً على التمييز الديني.
وليست الكنائس وحدها، بل هناك تكتلات كبيرة تتشكل من أفراد المجتمع الأميركي، وعبر المؤسسات المدنية وغير المدنية، للدفاع عن القيم الأميركية للحريات الدينية وعدم التمييز، بناء على الجنس أو العرق أو اللون، وهذه التجمعات المستمرة في المطارات من المحامين المتطوعين والمؤسسات المدنية القانونية، بالإضافة إلى أفواج كبيرة من المتطوعين والمتضامنين للوقوف، والتنديد بالسياسات العنصرية، هي تمثل الموقف المدني التضامني على أسس مدنية، أن جميع البشر سواسية بنص القانون، وأنهم أحرار في دينهم ومعتقداتهم، وأن حظر دخول مسلمي الدول السبع هو نوع من العنصرية والتمييز البغيض.
مراقبة المجتمع الأميركي، في هذه اللحظات التاريخية التي تكون فيها القيم الأميركية على المحك، وتحت تهديد سلطة ترامب الجديدة، مفيدة للعالم العربي ولدارسي الحركات الاجتماعية والعمل المدني، ودرس تاريخي في رصد هذا الحراك، وتحليل الصراع بين المجتمع والدولة، وهو كيف يقف المجتمع في وجه المؤسسة الحاكمة التي تقول وتفعل ما تريد من دون حساب أي فعل للمجتمع، بل تعمل على عكس مصالح الأكثرية وضد القيم السائدة.
ربما أن المجتمع الأميركي الرافض صعود ترامب منذ البداية كان قد أعد العدّة للدخول في معركة الحفاظ على قيم الحريات وحفظ حقوق الأقليات العرقية والدينية. حيث، على سبيل المثال، دخلت أكبر منظمتين دينيتين خاصتين بالمسلمين واليهود في أميركا، في تحالف للحفاظ على الحريات الدينية، وكذلك وعود بعض الساسة والنجوم الفنيين بتسجيل أسمائهم مسلمين، في حال إصرار ترامب على تسجيل المسلمين في برامج للمراقبة. التفاعلات التي تحدث تضامنية، ولا نستطيع حصرها هنا. لكن، يوماً بعد يوم، تظهر مواقف عديدة ترفض موقف ترامب الإيديولوجي العنصري، حتى من داخل إدارته، كما حدث مع القائمة بأعمال وزير العدل، سالي ييتس، من منصبها، بسبب رفضها تطبيق قراره التنفيذي بشأن حظر دخول رعايا سبع دول ذات غالبية مسلمة إلى الولايات المتحدة، وتشكيكها في قانونية القرار!
المجتمع المدني هو الرهان على استقرار أي دولة، أكثر من الرهان على الحكومة، فالحكومات وإداراتها السياسية إلى زوال أو تبدّل، وهي مقيدة بفترة زمنية محددة، ولها مهام تنفيذية تعمل على القيام بها للصالح العام. وفي حال خروجها عن مصالح المجتمع، أو وقوفها ضده، فإن المجتمع المدني هو الضامن أولاً لاستقرار المجتمع، وحماية نفسه وحماية الجماعات "الدينية والعرقية" من بطش النظام السياسي (الحالي) وجوره. هناك رهان حقيقي على النموذج المدني الأميركي من جميع شعوب العالم التي تراقب الأحداث الحالية وتشاهدها عن كثب، وترجو أن ينتصر المجتمع المدني وأفراد المجتمع ضد صعود اليمين والفاشية الجديدة.
نحن على أبواب فترة تاريخية، تمر أميركا فيها بصراعات واضطرابات على المستويات كافة، والصراع الأكثر حدة هو على الحقوق المدنية والحريات، وهي في خطر، في ظل وجود حكومة لديها قناعات إيديولوجية عنصرية نحو الأقليات الدينية والإثنية. ويبقى الرهان إلى أي مدى يمكن أن يصمد ممثلو المجتمع المدني في وجه هذه التوجه السياسي الجديد. ... قبل أيام من تتويج ترامب رئيساً، قال وزير الخارجية السابق، جون كيري، إن ترامب لن يستطيع الصمود أكثر من سنتين، ونحن نرى الفوضى التي أحدثها ترامب في أسبوعه الأول، حتى داخل إدارته. لا نعلم كيف سوف تستمر فترة ترامب، لكن بلا أدنى شك الأيام المقبلة ستكون أكثر إثارة.
31DE5C83-1D9D-4576-9684-6DAF063E959A
31DE5C83-1D9D-4576-9684-6DAF063E959A
هاشم الرفاعي

باحث وكاتب سعودي في علم الاجتماع، مهتم بدراسات علم الاجتماع الثقافية والدينية، ومهتم بدراسة الحركات الاجتماعية في الجزيرة العربية، مبتعث لدراسة علم الاجتماع في الولايات المتحدة.

هاشم الرفاعي