جدل اجتماعي في السعودية.. معارك في الخيال

02 ابريل 2017
+ الخط -
يدور جدل كبير في المجتمع السعودي على ضفاف سياسات هيئة الترفيه وأنشطتها أخيرا. نجد مجموعاتٍ تبشر أن هذا الترفيه هو ما كان ينقص المجتمع (بدونها كان الناس يعانون عقدا اجتماعية وفكرية!)، وأن الأنشطة الترفيهية مطلبٌ شعبي، وتحقق أهدافا فنية واقتصادية. فهذا الترفيه في صالح المواطن، وعودة الفن والترفية هي العودة إلى الحالة الطبيعية للمجتمعات. على النقيض، هناك من يرى أن برامج هيئة الترفيه، بشكلها الحالي، لا تتناسب مع قيم المجتمع المحافظ، وبين هذين القطبين بون شاسع من الآراء والأفكار التي تختلف باختلاف الموقف، لكن لا تحمل قناعات مسبقة مع برامج هيئة الترفيه أو ضدها.
الجدل الاجتماعي هو نتيجة عدة سياسات وقضايا، بل إن جزءاً من سياسات التنشئة الاجتماعية وإدارة الفضاء العام مبنية، في بعض الأحيان، على تجذير الجدل الاجتماعي، حيث غالبا ما يكون الجدل بين طرفين متضادّين، ويدّعي كل طرف أن قناعاته وأفكاره هي أفكار (وقناعات) الشعب والمؤسسة الحاكمة. لكن، نجد أن هذا الوهم يتبدّد، عند محاولة استقراء رأي المجتمع حول قضية معينة. لغة الحشد والشحن الاجتماعي هي أدوات تعبّر عن حالةٍ من الاستقطاب عند القطبين المتضادين. حيث تمثل السياسات الموجودة فتح باب الجدل، وتوجيه الاتهامات في الفضاءات العامة التي تخضع لرقابة المؤسسات السياسية، حيث تدير هذا النوع من الجدل، منذ زمن طويل، عبر وسائط متعددة، منها الصحافة والإعلام، وحاليا عبر ممثلين في الشبكات الاجتماعية، إشغال الرأي العام بقضايا الجدل من دون أن يكون هناك فعل مركّز وفاعل للجهات المعنية.
هناك قضايا تعتبر ذات طابع سياسي أكثر من أن تكون قضية بيد الرأي العام، أو بيد أحد 
أقطاب الصراع الاجتماعي "المتخيل". على سبيل المثال، قضايا المرأة، وغيرها من القضايا المؤجلة والمؤججة للرأي العام، حيث تعتبر كلها قضايا وملفات سياسية في المقام الأول، والمواطن ليس إلا مجرد صدىً لهذا النوع من الإشكاليات الذي يتحول إلى جدل اجتماعي، يدور في دائرة مغلقة. حيث لا يستطيع المواطن أن يمنح المرأة رخصةً لتقود السيارة، ولا يسقط ورقة بيروقراطية، تمكّنها من إتمام معاملتها، من دون أن يكون معها توقيع وموافقة "المحرم"، وغيرها من القضايا التي يتم طرحها بوصفها قضية اجتماعية وجدلية.
أوردت مقدمة هذا المقال رأياً يتم تداوله عن برامج الترفيه، هل أصوات الشريحة الاجتماعية المعارضة هذا النوع من السياسة الحكومية للترفيه أوقفت أي برنامج؟ عندما تكون هناك رغبة من صانع القرار السياسي السعودي في تطبيق أي مشروع أو فكرة، لا شيء يمكن أن يعترض على هذه الفكرة أو المشروع، والذاكرة التاريخية للمجتمع تحمل ذكرياتٍ كثيرة، إبتداء من فتح مدارس تعليم المرأة إلى قرار قيادة المرأة السيارة، كلها قرارت الفاعل الحقيقي، وصاحب الصلاحية هو صانع القرار السياسي، وافق أو رفض.
إذا لماذا كل هذا الجدل؟ ربما يكون، كما أشير في السطور السابقة، جزءاً من سياسات التنشئة السياسية فتح باب الجدل الاجتماعي بين الأقطاب المتنافرة (إسلاميين - وليبراليين). وفعلا هناك قطبان، لكن من دون فعل وأثر "متخيل"، أي أن كلا الطرفين لا يمكن أن يكون ذا فعل من الممكن أن يغير شيئا من الواقع الحالي، حيث كل أقطاب هذين النمطين "المتخيلين" في الصراع هم أفراد وأصحاب ولاء وقريبون من المؤسسات الحكومية الفاعلة. إذ صانع القرار هو محور ومركز في هذا النوع من العلاقات، ذات الطابع الأبوي، الذي يظهر بصورة أنه يحتضن الجميع، لكنه يستطيع أن يتجاهل الجميع أيضاً عند شروعه في قرارٍ جديدٍ، يتجاهل الجدل المتخيل، لتنفيذ ما يراه هو ضرورة، وأيضا يتحفظ على ما يراه خطوةً متقدمة. وفي الحالتين، يتأتى تبريره بأنه مطلب اجتماعي.
في ظل وجود مؤسسات برلمانية منتخبة، تكون حالة من النقاش والجدل الاجتماعي الحقيقي، حيث حينها يعرف الشعب والمجتمع بوصلة القضية والرأي، حيث تتضح الصورة أكثر "من مع ومن ضد". هناك نمط من المؤسسات، وهي التي تدير الجدل الاجتماعي "المتخيل" الذي يظهر هو بمثابة ضجيج اجتماعي، وأزمة لا حل لها، ويدور في حلقةٍ مفرغة من دون أدنى حلول، أو حتى فعل حقيقي. هناك مبادراتٌ ذات طابع رأي عام، تتجاوب معها الجهات المسؤولة، لكن هذه القضايا حالات فردية، وكذلك الحلول والمبادرات من الجهات الحكومية أيضا ذات طابع فردي، وليست ذات طابع مؤسسي قانوني. على سبيل المثال، عندما تظهر قضية تعنيف أسري، يتفاعل المجتمع في شبكات التواصل حول القضية، يتفاعل معها الوزير أو المتحدث باسم الوزارة، وتُحل القضية بمبادرةٍ من الوزارة، لكن من دون وجود قانون حماية حقيقي، يحد من هذه الإشكاليات من جذورها.
الجدل الاجتماعي ظاهرة موجودة في أي مجتمع، ومن الطبيعي أن تكون موجودة. في
المجتمعات التي تحتوي على برلماناتٍ تمثل فيها الشعوب، عبر وكلاء شعبيين لها، يكون للجدل الاجتماعي نتيجة ومسار تتوصل إليه. لكن، في ظل عدم وجود هذا النوع من المؤسسات البرلمانية الحرّة، يكون للجدل الاجتماعي طابع الخيال والوهم، حيث تترامى أطراف الجدل المتخيل التهم من دون الوصول إلى أي نتيجة، ويظل الجدل في دائرة مغلقة ومتكرّرة ربما عقوداً، من دون الوصول إلى أي فعل حقيقي. من جانب آخر، تطغى الأبوية السياسية على هذا النوع من المجتمعات التي لا توجد فيها مؤسسات تمثل الشعوب وقضاياها، ويكون صانع القرار السياسي بطل المشهد والمنتصر للمجتمع، وفي الوقت نفسه، هو صاحب الحل لقضايا أخرى. لكن، يتم تبريرها بأنها قضايا اجتماعية جدلية، ولا يمكن للسياسي أن يجازف لإرضاء طرفٍ على طرف آخر.
أخيراً، في حال وجود مراكز استطلاع رأي حقيقية ومستقلة، من الممكن أن تتوفر للمجتمع قاعدة بيانات لمعرفة الإشكاليات الجدلية للقضايا الاجتماعية. وللأسف، يفتقد مجتمعنا مثل هذه المشروعات، ربما تكون هناك صحف تنشر، أحيانا، استطلاعات رأي بشأن قضايا معينة، لكنها استطلاعاتٌ لا تغطي شريحةً واسعةً من المجتمع، فضلا عن شكوكٍ بشأن مدى مصداقيتها ومهنيتها. هناك جدل في كل مجتمع، وهو يقف خلف شرائح اجتماعية كبرى، والتعبير عن هذه الإشكاليات يتم بناء على بنية المجتمع والنظام السياسي، ففي الدول المدنية والديمقراطية، يستطيع أن يخرج أنصار قضية معينة إلى الشارع للتعبير عن قضيتهم. أما في الدول التي لا تتوفر فيها بنية مدنية وديمقراطية، يكون الجدل الاجتماعي محصوراً في أوساط محدودة، ومن الصعب أن يخرج إلى الفضاءات العامة، لكنه يظل محصورا في إطار محدود الانتشار. يعتبر الجدل الاجتماعي المتخيل ظاهرة في المجتمع السعودي، من دون خروجه بنتيجة، حتى لو استمر هذا الجدل أكثر من ثلاثة عقود، يبقى هذا الجدل أسير الخيال لأرباب الفكرين المتضادين، ووظيفة لإشغال الرأي العام بالاتهامات، من دون محاولة الخوض في الحلول ومعالجتها.
31DE5C83-1D9D-4576-9684-6DAF063E959A
31DE5C83-1D9D-4576-9684-6DAF063E959A
هاشم الرفاعي

باحث وكاتب سعودي في علم الاجتماع، مهتم بدراسات علم الاجتماع الثقافية والدينية، ومهتم بدراسة الحركات الاجتماعية في الجزيرة العربية، مبتعث لدراسة علم الاجتماع في الولايات المتحدة.

هاشم الرفاعي