بعد عصور طويلة من الإهمال وزحف العشوائية وسيطرة مدابغ الجلود؛ عاد "سور مجرى العيون" في منطقة مصر القديمة إلى دائرة الاهتمام، إذ بدأت خطة ترميمه وتطويره تدخل حيز التنفيذ، وستنقل المدابغ، في وقت قريب، إلى منطقة صناعية بعيدة عن هذا الأثر العظيم والفريد من نوعه في العمارة الإسلامية بكافة العصور.
وسور مجرى العيون هو مجرى مائي صناعي مرفوع يعود تاريخه إلى أكثر من 800 عام، ويبلغ طوله حوالي 3 كيلومترات، ويبلغ أقصى ارتفاع للسور في بعض الأماكن 18 متراً وأقل ارتفاع 3 أمتار. وهو يبدأ من فم الخليج إلى باب القرافة بالسيدة عائشة، وكان قديماً يصل إلى سور القلعة. وهو مشيّد من الحجر، ويجري على سطح السور مجرى مائي عرضه حوالي 70 سم، يمر بمجموعة كبيرة من القناطر (العقود) المدببة، حيث كانت تنتهي بصب الماء في مجموعة من الآبار الضخمة داخل القلعة.
وكان الهدف من هذا الإنشاء هو نقل مياه النيل إلى قلعة الجبل في المقطم لخدمة الجنود والموظفين المتمركزين فيها، فقد ظلت القلعة مقر الحكم حتى انتقل مركز الحكم إلى قصر عابدين في زمن الخديو إسماعيل. ولم يكن هناك مصدر للمياه في القلعة سوى بئر يوسف، الذي أصبح غير كافٍ، لذا جاءت فكرة الاستعانة بمياه النيل.
ومرّت عملية إنشاء هذا السور بمراحل متعددة بدأت في عصر صلاح الدين الأيوبي، وكان لا يزال وزيراً في أواخر العصر الفاطمي. ولم يتبق من إنشاءات صلاح الدين إلا القليل الموجود باتجاه القلعة، حيث استغل الأيوبي سور القاهرة القديم وجعل فوقه مجرى مائيا باتجاه القلعة.
وفي عصر السلطان الناصر بن قلاوون أعيد تجديد السور وبناؤه كاملاً سنة 1312م، وكان ذلك على مرحلتين أضيفت فيهما أربع سواقٍ على النيل بفم الخليج، لرفع الماء من خليج صغير عند حائط الرصد الذي يُعرف اليوم باسم إسطبل عنتر.
وكان الملك الناصر قد اهتم بتوصيل الماء إلى القلعة وتكثيره فيها لأجل سقي الأشجار وملء الفساقي، ولأجل مراحات الغنم والأبقار، فأمر بحفر بئر أخرى ليركب عليها القناطر حتى تتصل بالقناطر القديمة فيجتمع الماء في بئرين، ويصير ماء واحداً يجري إلى القلعة فيسقي الميدان، ثم أمر بحفر خليج صغير في بركة الجيش، يخرج من البحر ويمر إلى حائط الرصد. وفي عصر السلطان الغوري، أواخر العصر المملوكي، كانت هناك سلسلة إنشاءات كبرى، كان منها إقامة مأخذ مياه جديد لهذه القناطر بالقرب من السيدة نفيسة، يضم 6 من السواقي الكبيرة لتقوية تيار المياه الواصلة منها إلى آبار القلعة.
وكانت أبرز مظاهر العبث بسور مجرى العيون مع وصول الحملة الفرنسية إلى مصر سنة 1798، حين اتخذ الفرنسيون من المجرى منطقة حربية يتمترسون خلفها؛ فسد الفرنسيون 26 قنطرة من 173، وأحدثوا كثيراً من التغييرات في السور، فهدموه وخرّبوه، حيث سدوا أبواب الميدان من ناحية الوسيلة وناحية عرب اليسار، وأوصلوا سور باب القرافة في جامع الزمر الذي حوّلوه إلى قلعة، كما سدوا الكثير من العيون والبواكي، كما سدوا بعض الجهات بحواجز خشبية، فتحوا لها بوابات، ووضعوا عليها أقفالا، وعيّنوا عليها حراسة، إضافة إلى أنهم حفروا خندقاً خلف السور.
أما عن كثرة المدابغ التي تنتشر في المنطقة المتاخمة للسور، فتعود إلى أن هذا النوع من الصناعات كان يتم توطينه خارج المدينة، ولكن مع الزحف العمراني صار السور في وسط المدينة، وتحولت الأحياء حوله إلى مناطق شعبية مزدحمة، حتى صارت المنطقة المحيطة بالسور لا تتناسب مع طبيعته الأثرية. وقد صدرت قرارات حكومية بإلغاء مدابغ الجلود ونقلها جميعاً، خلال الشهور القادمة، إلى منطقة الروبيكي الصناعية.
وكانت محاولات الترميم السابقة قد تكلفت عدة ملايين من الجنيهات، لكن بعد انتهائها عاد الإهمال إلى سيرته الأولى. ويشمل مشروع التطوير الحالي إضاءة السور باستخدام أشعة الليزر، ليظهر السور كتحفة فنية. وللتغلب على الجزء المتهدّم فوق شارع صلاح سالم، سيتم استخدام التكنولوجيا الحديثة لعمل خداع بصري، ليظهر وكأن المياه تتدفق منه في اتجاه القلعة. كما يهدف المشروع إلى تحويل المنطقة إلى منطقة سياحية وثقافية، بإقامة محال للحرف اليدوية والمنتجات الجلدية التقليدية، إضافة إلى قاعات للعروض الثقافية والحفلات.
وينتقد ناشطون أثريون بعض الممارسات غير العلمية أثناء عمليات الترميم، بصورة قد تضر بالقيمة الأثرية للسور وعناصره، إضافة إلى لفت الأنظار إلى ما أصاب العناصر الخشبية مثل السواقي من تلفيات، وتعرّض بعضها إلى سرقات.