سورية ومفهوم الدولة العميقة

13 يناير 2015
+ الخط -

ظلت البنية السياسية لمفهوم "الدولة" في سورية، طوال السنوات والعقود الماضية في إطارٍ من الشعارات الرنانة والفضفاضة، المضللة للعقول، هذا كان مقصوداً، فقد لعب دوره في عملية "غسيل الأدمغة"، واختصار الدولة في شخص القائد الملهم، حتى تماهى الاثنان في أذهان الطائفة العلوية خصوصاً، وغيرهم ممن تشرب عقيدة البعث، وهي بدورها، وعلى ما تحمله من سوء ساهمت في ذلك. وبالتالي، استطاع النظام بتركيبته الأمنية السيطرة على البلاد والعباد وكبح جماح أي محاولة للخروج من هذه الدائرة.
يشير علماء الاجتماع إلى حتمية المشكلات الهائلة في الانتقال من واقع سياسي إلى واقع آخر، فالجذور الفكرية والثقافية التي فرضها النظام عميقة، حتى إن مؤسسات الدولة، والتعليم، والقيم التي تسود المجتمع تصبح في خدمة ترسيخ الدولة العميقة، وبالتالي احتمال تعثر التغيير يكون ممكناً، لكثرة المشكلات الحاصلة إبّان الثورات، وأثنائها، هذه المشكلات قد تعني عودة كاملة لأدوات وكوادر النظام القديم، أو تعني فوضى طويلة الأمد، أو أي سيناريو يؤخر قطف الثمرة والتخلص من آثار الماضي، بدت هذه الانتكاسة واضحة في مصر وتونس واليمن، فيما يستميت الطفيليون في الاستماتة والإبقاء على النظام السوري، وما المبادرات التي تقدم إلا نتاج لهذا الواقع الأليم الذي قد يسهم في قبول المعارضة به "حقناً للدماء".
هناك دائماً ارتباط بين "مؤسسات الدولة" التي أعيد تشكيلها لصالح خدمة المستبد، وهذا النظام الاستبدادي نفسه. الجديد أنه، في مرحلة الثورات، تنشأ كيانات داعمة للنظام، ويرتبط وجود هذه المنظومة به.
هذا التراكم يجعل الكوادر العاملة في هذه المؤسسات، بمثابة فريق مبرمج بشكل جماعي، بخريطة عمل منهجية ومتكاملة لخدمة الاستبداد. والأخطر من ذلك أن مصالح هذه الكوادر تصبح مرتبطة ببقاء الوضع الاستبدادي، ويترسخ في ضميرها وكل قناعاتها أن بقاء المستبد أو بقاء آثاره هو الضمان لحياة مقبولة لهم.
وبما أن هذه الجموع متداخلة مع المجتمع بطريقة معقدة، فلا يمكن التعامل معها بإعلان الحرب، لأن الفاصل بينها وبين بقية المجتمع النظيف سيكون صعباً، بعد ترسخ جو النفاق الذي تركه المستبد.
وهكذا تتشكل الدولة العميقة ضمن بنية النظام الاستبدادي، في منظومة معقدة سياسيّاً واجتماعيّاً وحركيّاً، يجعل التغيير عصيّاً حتى لو زال المستبد نفسه.
استفاد النظام، حتى اليوم من فكرة الدولة العميقة/ الدولة داخل دولة، كما نرى في المشهد اللبناني، وأثر "حزب الله" على المسرحين، السوري واللبناني، في الوقت نفسه.
نحن أمام شبكة عوامل متداخلة ناتجة عن طول بقاء النظام، ساهمت وتحت فكرة "الدولة العميقة" في تأخير قطف الثمرة، مع ارتباط المجتمع وسلوكياته بإرث النظام المستبد القائم على البنية العسكرية الأمنية "المخابراتية" ذائعة الصيت والمنتشرة بكثافة على طول البلاد وعرضها، والتي لا تعني إلا شكلاً ترهيبيّاً للعامة.
ونتيجة غياب الحياة السياسية، ومفهوم الدولة "المدنية"، ومع بداية الحراك السلمي، بدأ ينتعش دور الأفرع الأمنية، مروراً بدورها الجديد الذي بدأت تنتهجه، اليوم، المؤكد لقيام ظاهرة "الدولة العميقة"، بشكلها الأمني، وأنها أصيلة في هذا النظام الفاسد، حيث تم تقسيم البلاد إلى مناطق، والمناطق إلى حواجز كبيرة وصغيرة، خاضعة لسلطة جهة متنفذة تابعة لأحد الأفرع، حتى أصبحت عبئاً على النظام نفسه، والذي فيما اعتقد استسلم للواقع، في رغبةٍ للخلاص من أسوأ الشرين، لينتقل في مرحلةٍ مقبلة إلى التخلص من مليشياته نفسه التي يدرك تماماً أنها ستكون القوة الضاربة لسلطته ما لم يلجمها مسبقاً.
لكن، ماذا لو بقي الأسد، هل يمكن له أن ينجح في كبح جماح هؤلاء ذات يوم؟
على الرغم من أن ذلك مستبعد، إلا أنه، في هذا الوقت، يواجههم بأن يضرب قوتهم بقوة الثورة نفسها، ويضعف تحالفاتهم، وهذا يتقاطع مع الرغبة الأميركية التي تهدف إلى إسقاط أي قوة في البلد، وجعل الدولة ساحة للصدام وإنهاك القوى المتصارعة، والتي قد تشكل خطراً على الحليف المدلل "إسرائيل".
فرضيات كثيرة غيبية تخضع لمصالح لا يمكن التكهن بها، إلا إذا افترضنا قوة المبادئ والعقيدة الإيمانية لدى الثوار، وعدم الرضوخ لمثل هذه التحالفات ووضع اليد معها في خيارٍ للتخلص من الأسد، بحجة الوحدة الوطنية، أو القومية، وغيرها من التسميات القابلة للنشوء في حينها.
العلاج يحتاج وقتاً طويلاً وتضحياتٍ كبيرة، قد لا يتم الخلاص منهم إلا بالإرهاب الفكري ضد كل من يريد أن يحمي بقايا النظام، وذلك بعد تجريدهم من الدعم الذي كانوا يلقونه من المؤسسات الرسمية التي أزيلت بعد زواله.
وما ذكرناه سبب تأخر النصر، ولكن هذه العوامل، على الرغم من قوتها وقدرتها على تعطيل الثورات، وانتكاساتها وطول أمدها، لكنها لا يمكن أن توقف عجلة التغيير، مادامت الثورة تغيير حضاري حقيقي.
أما إذا كانت الثورة انتفاضة عابرة، أو غضباً مؤقتاً، فليس لها فرصة أن تصمد أمام تشعب ونفوذ الدولة العميقة.
لا يمكن إلا أن نشاهد الجانبين، السلبي والإيجابي، أمام ما يحدث من مشاهد في دول الربيع العربي الذي تحاول أطراف وأده داخليّاً وخارجيّاً. لكن، يبقى في يقيننا أن التغيير الجذري في سورية يتجه نحو تغيير وجه الخريطة العالمية برمتها، ولعل الأيام المقبلة خير برهان، والعاملون على الأرض وحدهم من يفهم دقة ما أقول.

avata
avata
فرات الشامي (سورية)
فرات الشامي (سورية)