27 أكتوبر 2024
سورية... بوتين وترامب و"عيد الجلاء"
لن يسعدني العدوان الأميركي على بلادي، كما لم يسعدني قبله أي عدوان، أنا السوري الصامت بالع الموسى على الحدّين. ولم تكن لتسعدني استباحة سمائي ومائي وأرضي من أي طرفٍ أجنبي كان. لا يسعدني أي أمر، لكن هناك أمورًا كثيرة تحزنني وتقهرني وتملؤني شعورًا بالذل والمهانة والهزيمة.
ربما إبريل/ نيسان بالنسبة لي هو شهر المشاعر اللعينة هذه التي تأكل روحي، نيسان الذي يذكّرني بأننا شعبٌ لم نعرف الاستقلال، وكل عام يحتفلون في بلادي بعيد الاستقلال الذي اعتمد اسمه رسميًا بعيد الجلاء. بلى، هو جلاء آخر جندي فرنسي عن أرض سورية التي كانت تحت انتداب دولةٍ تقاسمت المنطقة، وقسمتها بموجب معاهدة سايكس بيكو، بعدما أرضوا تركيا بقسم عزيز من أرض سورية.
سورية لم تتحرّر، فالحرية الحقيقية هي استقلال الإرادة، وأول خطوةٍ في الحرية تبدأ بخطوة حرة، الخطوة الحرّة تعثرت منذ بداياتها، منذ تعاقبت على سورية بعد الانتداب انقلاباتٌ عسكريةٌ حتى استيلاء حزب البعث الذي وُلد ذات نيسان أيضًا على السلطة، وبقائه في سدّة الحكم سبعين عامًا، يحكم البلاد ويتحكّم بمصيرها، بإقامته نظاماً عسكرياً قمعياً أمنياً بعد انقلاب الحركة التصحيحية عام 1970، ولمّا يزل هذا النظام في سورية.
يحزنني أن السوريين انقسموا باكرًا، وانشغلوا بالعداوات البينية، وكل فريق راح يبني الآمال والأحلام على قوة خارجية، ويتلقى الدعم اللوجستي والمعنوي منها، بينما الشعب يقتل ويشرّد ويهجّر، والمجتمع ينهار ومؤسسات الدولة تتداعى ورصيدنا الذي راكمناه من لقمة أطفالنا ومستقبلهم يتبدّد.
أي جهل وضلال وتغريب هذا الذي يحصل؟ يراهنون على القوى التي تتصارع على مصالحها بأرواحنا، متوهمين أن للسياسة أخلاقًا، وأن مواقف القوى المتصارعة فوق أرضنا مبدئية،
ويضرمون نار الطائفية والعصبية في صدورهم. التبست صورة الاتحاد السوفييتي بصورة روسيا اليوم، روسيا الدولة الرأسمالية الساعية إلى ترسيخ موطئ قدمها في الساحة العالمية، فمنهم من اعتبرها حامي الحمى وضامن المستقبل، ومنهم من عاداها سابقًا، لأنها دولة شيوعية، استثمر عداءه التاريخي لها انطلاقًا من هذا الموقف. وأما أميركا التي لم تكن يومًا في تاريخها مناصرة لقضايا شعوبنا، ولم تكن إلا دولة استعمارية كبرى، تسعى إلى الاستئثار بالسيادة على العالم، وصديقتها وحليفتها الدائمة في قلب أوطاننا هي إسرائيل، فشعبنا آخر همها، كيف استفاق الحس الإنساني لديها اليوم وأطفال سورية يقتلون في مهدهم منذ سنوات ست؟ على الرغم من بشاعة المجزرة التي حصدت أطفال خان شيخون، لكنها لم تكن المجزرة الأولى، ولا الأكبر في تاريخ هذه الحرب اللعينة. لقد حصدت البراميل أكثر، وحصد طيران التحالف أكثر، وحصد الطيران الروسي أكثر، وطاولت سكاكين "داعش" وجبهة النصرة نحورًا غضّة وأحلامًا طاهرة، وابتلع البحر كثيرين لم يلفظهم كما لفظ الطفل إيلان، ولم تتحرّك أميركا، ولم يتحرّك العالم.
هل ذاكرتنا مثقوبة إلى هذه الدرجة، حتى لم تعد تستطيع أن تنبش من أرشيفها صور المجازر والقتل والدمار والتهجير؟ أم إن الغشاوة على أبصارنا وبصائرنا تزداد سماكةً، فلا نعود نرى أو نسمع إلا أصوات الضغينة والثأر ترسم لنا واقعًا يقضي على أدنى إمكانيةٍ لأن نصحو ونعرف من أين نمسك بمصيرنا؟
يا للمهزلة والفاجعة، صار بوتين هو "أبو علي بوتين"، وصار ترامب "أسد السنة" و"أبو عمر ترامب"، في استدعاءٍ قاتلٍ لإرث أكثر من ألف وأربعمئة عام من الشقاق المبارك من سلاطين الاستبداد مجتمعين، غافلين عن المجازر التي يرتكبها المدعوان في أرضنا بفجاجة وفجور صريحيْن، أو بالوكالة عن طريق أدواتهما، فأي دركٍ من التفكير والإدراك والفهم والانحطاط العاطفي قد وصلنا إليه؟ صرنا نشهر ولاءاتنا برموزٍ نعيد تداولها وتكرارها، انطلاقًا من ثوابت التفكير الذي رسخه النظام الشمولي بمهارته الفذّة في تصنيع الكوادر، فصُور "بو علي بوتين" تلصق على السيارات وحافلات النقل العامة، وتشهر على الواجهات، مثلما اعتادت ذاكرتنا البصرية على مدى 50 عامًا على رؤية صورة الزعيم القائد في كل مكان. وبعد الضربة الأميركية على مطار الشعيرات، الضربة الإشكالية التي ليست أكثر من حركة تضليل، تعيد خلط الأوراق، وتربك مشاعر الناس الغاضبة والمحقونة، عمد مشتركون على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) إلى وضع صورة ترامب الممهورة بكلمة "منحبك" صورة شخصية.
هذا السوري الذي فاجأ نفسه بعد الحراك بصورةٍ تتناقض مع تصوره عن نفسه، بعدما حُقن، عقوداً خلت، بمشاعر العزة والكرامة والوطنية والتميز والتفرد، مشاعر خلبية خادعة مارست تنويم الفكر والمشاعر عليه، لم يستطع الانفلات من قيد القالب الذي يحاصره، لم يستطع امتلاك أدوات تفكير جديدة، تناسب طموحه وجنوحه نحو الحرية، ما زال عبدًا للمفاهيم التي صنعها الاستبداد ولأدوات التفكير والتعبير التي لم يتقن غيرها بعد، فعلى مدى الحراك الذي دخل سنته السابعة، لم يتخلص السوري من الشخصنة، إن كان بدايةً في إطلاق تسمياتٍ على أيام الجمعة وقت الحراك السلمي والتظاهر، إلى اليوم، ليس فقط الشخصنة والحاجة دائمًا إلى "زعيم" يتبعه ويمنحه الولاء، بل الحاجة العاطفية، التعلق الشعوري والنفسي به، حاجته إلى الأب مثلما لو كان محرومًا من الأبوة، أو لو أن الحياة لا تستقيم بلا سندٍ قويٍّ جبار، يتكثف معناه في صورة القائد الخالد الرمز.
السوري المنتهك جسديًا ونفسيًا وروحيًا، دفعته الحرب الملعونة، المدعومة بحرب إعلامية
جبارة، إلى متاريس العداوة البينية، فصارت مواقفه كيديةً من دون إدراكٍ للكارثة التي تحيق بوطنه، مواقف مبنية على العصبية الطائفية والمذهبية والقومية، صار السوري عدو السوري لدى غالبية الشعب، وصار الوطن والوطنية بازارًا للمساومة والاحتكار، وصار التخوين يُبنى على الولاءات الخارجية، وفق الأجندات المطروحة، فمن لا يؤيد ولاءاتي خائن للقضية والوطن، بينما العالم يسوّي حساباته على حساب مصيرنا ومستقبلنا وأحلامنا. لم يعد السوري ينتبه إلى أن الوطن هو المنتهك، وأن أبناءه يفقدون حصتهم فيه ومستقبلهم عليه، بل صار يُسكت صوت العقل، فيما لو اخترق مجاله السمعي، لأن صراخ الدم أقوى وأعتى، صراخ الدم ليس صوتًا فقط، هو نار تتّقد في الصدور، تضرمها الخطابات المأجورة، ولا يخمدها غير الثأرية المرتجاة، الثأرية المدفوع لها، كي تتغوّل وتبدّد طاقاته، وتدفعه إلى حمل سلاحه وإشهاره نحو الدريئة الخطأ، نحو أخيه في الوطن، بعد أن شرخت الحرب الصدور والنفوس، وقضت على الرحمة والتراحم وصلة الرحم.
في السابع عشر من أبريل/ نيسان، في العام 1946، طرد الشعب السوري آخر جندي فرنسي عن أرض بلاده، فدوّن عيدًا تاريخيًا سُمّي "عيد الجلاء". ربما هذه التسمية من الحقائق القليلة التي تحسب للتاريخ، فالجلاء لا يعني الاستقلال. والاستقلال، بتعريفٍ بسيطٍ، ليس إلا استقلال الإرادة وحرية صنع المصير، وقد صودر الإنجاز التاريخي للشعب السوري، منذ استلبت قراره وحقه في صنع حياته ومصيره أنظمة عاتية الديكتاتورية، سلبته إحساسه بنفسه، وغرّبته عنها، فكانت النتيجة الفادحة ما نراه اليوم: احتفالا بالغزو الأميركي، وقبله تهليلا للهيمنة الروسية ومباركة لغاراتها وما تحصد من أرواح الأبرياء، وانقسام الشعب بين مؤيد لـ "بو علي بوتين" ومؤيد لـ ترامب "أسد السنة"، وسماؤنا مستباحة، مثلما أرضنا وآدميتنا، وبدلاً من التفكير بالاستقلال عن كل ما يعيق تحقيق الحلم الذي انتفض من أجله الشعب، والسعي إلى إحياء الوطن من جديد، وإعادة إعماره على أساس المواطنة السليمة المعافاة، ازددنا انقسامًا وتبعيةً وفق نزعاتٍ عصبيةٍ مذهبيةٍ وطائفيةٍ بجدارة تمنح الطامعين بسيادتنا من طغاة وحلفائهم ما يفوق ما ارتجوه من حربهم علينا.
ربما إبريل/ نيسان بالنسبة لي هو شهر المشاعر اللعينة هذه التي تأكل روحي، نيسان الذي يذكّرني بأننا شعبٌ لم نعرف الاستقلال، وكل عام يحتفلون في بلادي بعيد الاستقلال الذي اعتمد اسمه رسميًا بعيد الجلاء. بلى، هو جلاء آخر جندي فرنسي عن أرض سورية التي كانت تحت انتداب دولةٍ تقاسمت المنطقة، وقسمتها بموجب معاهدة سايكس بيكو، بعدما أرضوا تركيا بقسم عزيز من أرض سورية.
سورية لم تتحرّر، فالحرية الحقيقية هي استقلال الإرادة، وأول خطوةٍ في الحرية تبدأ بخطوة حرة، الخطوة الحرّة تعثرت منذ بداياتها، منذ تعاقبت على سورية بعد الانتداب انقلاباتٌ عسكريةٌ حتى استيلاء حزب البعث الذي وُلد ذات نيسان أيضًا على السلطة، وبقائه في سدّة الحكم سبعين عامًا، يحكم البلاد ويتحكّم بمصيرها، بإقامته نظاماً عسكرياً قمعياً أمنياً بعد انقلاب الحركة التصحيحية عام 1970، ولمّا يزل هذا النظام في سورية.
يحزنني أن السوريين انقسموا باكرًا، وانشغلوا بالعداوات البينية، وكل فريق راح يبني الآمال والأحلام على قوة خارجية، ويتلقى الدعم اللوجستي والمعنوي منها، بينما الشعب يقتل ويشرّد ويهجّر، والمجتمع ينهار ومؤسسات الدولة تتداعى ورصيدنا الذي راكمناه من لقمة أطفالنا ومستقبلهم يتبدّد.
أي جهل وضلال وتغريب هذا الذي يحصل؟ يراهنون على القوى التي تتصارع على مصالحها بأرواحنا، متوهمين أن للسياسة أخلاقًا، وأن مواقف القوى المتصارعة فوق أرضنا مبدئية،
هل ذاكرتنا مثقوبة إلى هذه الدرجة، حتى لم تعد تستطيع أن تنبش من أرشيفها صور المجازر والقتل والدمار والتهجير؟ أم إن الغشاوة على أبصارنا وبصائرنا تزداد سماكةً، فلا نعود نرى أو نسمع إلا أصوات الضغينة والثأر ترسم لنا واقعًا يقضي على أدنى إمكانيةٍ لأن نصحو ونعرف من أين نمسك بمصيرنا؟
يا للمهزلة والفاجعة، صار بوتين هو "أبو علي بوتين"، وصار ترامب "أسد السنة" و"أبو عمر ترامب"، في استدعاءٍ قاتلٍ لإرث أكثر من ألف وأربعمئة عام من الشقاق المبارك من سلاطين الاستبداد مجتمعين، غافلين عن المجازر التي يرتكبها المدعوان في أرضنا بفجاجة وفجور صريحيْن، أو بالوكالة عن طريق أدواتهما، فأي دركٍ من التفكير والإدراك والفهم والانحطاط العاطفي قد وصلنا إليه؟ صرنا نشهر ولاءاتنا برموزٍ نعيد تداولها وتكرارها، انطلاقًا من ثوابت التفكير الذي رسخه النظام الشمولي بمهارته الفذّة في تصنيع الكوادر، فصُور "بو علي بوتين" تلصق على السيارات وحافلات النقل العامة، وتشهر على الواجهات، مثلما اعتادت ذاكرتنا البصرية على مدى 50 عامًا على رؤية صورة الزعيم القائد في كل مكان. وبعد الضربة الأميركية على مطار الشعيرات، الضربة الإشكالية التي ليست أكثر من حركة تضليل، تعيد خلط الأوراق، وتربك مشاعر الناس الغاضبة والمحقونة، عمد مشتركون على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) إلى وضع صورة ترامب الممهورة بكلمة "منحبك" صورة شخصية.
هذا السوري الذي فاجأ نفسه بعد الحراك بصورةٍ تتناقض مع تصوره عن نفسه، بعدما حُقن، عقوداً خلت، بمشاعر العزة والكرامة والوطنية والتميز والتفرد، مشاعر خلبية خادعة مارست تنويم الفكر والمشاعر عليه، لم يستطع الانفلات من قيد القالب الذي يحاصره، لم يستطع امتلاك أدوات تفكير جديدة، تناسب طموحه وجنوحه نحو الحرية، ما زال عبدًا للمفاهيم التي صنعها الاستبداد ولأدوات التفكير والتعبير التي لم يتقن غيرها بعد، فعلى مدى الحراك الذي دخل سنته السابعة، لم يتخلص السوري من الشخصنة، إن كان بدايةً في إطلاق تسمياتٍ على أيام الجمعة وقت الحراك السلمي والتظاهر، إلى اليوم، ليس فقط الشخصنة والحاجة دائمًا إلى "زعيم" يتبعه ويمنحه الولاء، بل الحاجة العاطفية، التعلق الشعوري والنفسي به، حاجته إلى الأب مثلما لو كان محرومًا من الأبوة، أو لو أن الحياة لا تستقيم بلا سندٍ قويٍّ جبار، يتكثف معناه في صورة القائد الخالد الرمز.
السوري المنتهك جسديًا ونفسيًا وروحيًا، دفعته الحرب الملعونة، المدعومة بحرب إعلامية
في السابع عشر من أبريل/ نيسان، في العام 1946، طرد الشعب السوري آخر جندي فرنسي عن أرض بلاده، فدوّن عيدًا تاريخيًا سُمّي "عيد الجلاء". ربما هذه التسمية من الحقائق القليلة التي تحسب للتاريخ، فالجلاء لا يعني الاستقلال. والاستقلال، بتعريفٍ بسيطٍ، ليس إلا استقلال الإرادة وحرية صنع المصير، وقد صودر الإنجاز التاريخي للشعب السوري، منذ استلبت قراره وحقه في صنع حياته ومصيره أنظمة عاتية الديكتاتورية، سلبته إحساسه بنفسه، وغرّبته عنها، فكانت النتيجة الفادحة ما نراه اليوم: احتفالا بالغزو الأميركي، وقبله تهليلا للهيمنة الروسية ومباركة لغاراتها وما تحصد من أرواح الأبرياء، وانقسام الشعب بين مؤيد لـ "بو علي بوتين" ومؤيد لـ ترامب "أسد السنة"، وسماؤنا مستباحة، مثلما أرضنا وآدميتنا، وبدلاً من التفكير بالاستقلال عن كل ما يعيق تحقيق الحلم الذي انتفض من أجله الشعب، والسعي إلى إحياء الوطن من جديد، وإعادة إعماره على أساس المواطنة السليمة المعافاة، ازددنا انقسامًا وتبعيةً وفق نزعاتٍ عصبيةٍ مذهبيةٍ وطائفيةٍ بجدارة تمنح الطامعين بسيادتنا من طغاة وحلفائهم ما يفوق ما ارتجوه من حربهم علينا.
دلالات
مقالات أخرى
19 أكتوبر 2024
05 أكتوبر 2024
24 سبتمبر 2024