سندويشة على جسر اللنبي

21 يونيو 2019

هنا تتبدّد كرامة البشر(موقع تاريخ فلسطين/ palestine chronicle)

+ الخط -
كانت حوالي السادسة مساء عندما وصلنا إلى الجانب الإسرائيلي من جسر الملك حسين، نقطة العبور بين الأردن وفلسطين. استقبلتنا موظفة الجوازات بابتسامةٍ غير مسرورة، وهذا نوع من الابتسامات لا تعرفه إلا هنا، طرحت الأسئلة الروتينية على زوجتي قبل التوجه إلي، كانت تسأل وتسمع وتحدّق في الكمبيوتر، وكنت أجيب بينما أحدق في ملامح وجهها، وأشيح بصري عن العلم خلفها. تُواصل طرح الأسئلة، وأجيب باقتضاب، محاولاً رد ابتسامتها الباردة بابتساماتٍ أبهت.
دقائق مرّت، حتى نادى الموظف على زوجتي، وسلّمها جواز السفر مع تأشيرة الدخول، وقال "أما أنت فانتظر".. ثم انتصف الليل، مر عبر معبر الملك حسين مئات الفلسطينيين العائدين من شتات الأرض إلى وطنهم، يحملون حقائب من الهدايا والأشواق. هذه سيدة غزّية تلملم أطفالها الخمسة إلى حين وصول ورقة التنسيق التي تسمح لها بالعبور نحو الضفة الغربية. تسألني إن كنتُ من غزة، ظانّةً أن الانتظار حكرٌ على الغزّيين. يقترح عليها الضابط الإسرائيلي العودة إلى الأردن، لأن تصريح التنسيق ربما يتأخر يوما أو أكثر، فتردّ بأنها تفضّل الانتظار هنا. وهذه أمٌّ أخرى تلوم ابنتها على نسيان بطاقة الجسور. ويلوم زوج زوجتَه على نسيان واحدةٍ من الحقائب الست على الجانب الأردني من الجسر.
بدأت ساعات يوم جديد. ينادي جندي إسرائيلي اسمي، أقفز، يناولني كيساً بلاستيكياً، أتفحصه، وتسأل زوجتي باستغراب مخلوط بفضول وريبة. في الكيس سندويشة بيض وزجاجة ماء. هل أشفقت إسرائيل "الإنسانية" عليّ، أم هي حيلة رخيصة لتبييض وجه إسرائيل، تشير الزوجة عليَّ برفض السندويشة المشبوهة.
تستمر ساعات الانتظار على جسر العودة، كما غنّته فيروز، هنا تتبدّد كرامة البشر على بوابات معبرٍ تُسميه السلطة الفلسطينية معبر الكرامة. تحاول إسرائيل إخفاء سطوتها بصور تزيّن جدران المكان، وتحاول تنظيف صورتها بمكنسةٍ كهربائية يجرّها يهودي مهاجر روسي. على هذه الجدران، عُلقت صورة للملك الحسين وإسحاق رابين معا. صورة أخرى تُذكَّر باتفاقية السلام مع الأردن. وصورة كبيرة لمسجد قبة الصخرة، رمز مدينة القدس التي تُصر إسرائيل على سرقتها عاصمة لها.
قبل يوم، كنت في رحاب الجامعة الأردنية أتابع مؤتمر "القدس: تحدّيات الواقع وإمكانات المواجهة" الذي نظمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بالتعاون مع الجامعة الأردنية ومؤسسة الدراسات الفلسطينية. قدّمت فيه الباحثة الفلسطينية، مليحة مسلماني، ورقة بينت فيها تنازع صورة المكان في فلسطين، مرة بوصفه سجنًا يؤدي وظيفة الحصار، ومادة حية لترجمة يومية عملية لأيديولوجيا المستعمر. ومرة أخرى بوصف المكان فضاءً لدولة على النمط الغربي، يُعدُّ "ديمقراطية حضارية متطوّرة"، تهتم بـ "الإنسان، والمقدسّات، والجماليات، وتسعى إلى تقديم صورة "إيجابية حضارية" عن المكان، وعن إسرائيل دولة. استعرضت مسلماني قراءة وتحليلًا لصورة المكان الناتجة من الأضداد في المخيلة الاستعمارية، بالتركيز على جدار الفصل العنصري، وحاجز قلنديا العسكري، والبلدة القديمة في القدس. وخلصت إلى أن صورة المكان في فلسطين تصبح ترجمة بصرية واقعية لمخيلة المُستعمِر وتصوراته تجاه ذاته، وتجاه الآخر المُستَعمَر.
تتجلى تناقضات المكان وأضداد معانيه في هذا المعبر أيضاً. يكشف تناقضات إسرائيل في تعاملها مع المكان، فصالة المسافرين، أو العبور التي يسهر على تنظيف أرضيتها مهاجر يهودي، وتزين جدرانها صور السلام مع جيرانها العرب، هي نفسها التي تخفي خلف جدرانها غرف تحقيق تهين المستجوبين فيها. على جسر الكرامة، تتعمّد مجندّات إسرائيليات مراهقات بهدلة كرامة العابرين الفلسطينيين، فيما يُصر الفلسطيني على كرامته، ولو برفض سندويشة من إسرائيل.
سبع ساعات منذ وصولنا، أيقظني شرطي إسرائيلي من إغفاءة، أراه حاملاً بيده كيساً آخر، سندويشة أخرى مع علبة كوكا كولا. أتساءل مع زوجتي عن سر الكرم الإسرائيلي. أشرقت شمس يوم آخر، ومرّت عشر ساعات. رفض الإسرائيليون إدخالي إلى الوطن، وعدنا إلى عمّان. لن تُبيض سندويشة البيض وجه إسرائيل الأسود، ولن تحجب نظافة صالة المسافرين الإسرائيلية وساخة المُستعمر الذي يكره العائدين إلى الوطن.
AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.