في أواخر العام الماضي، تلقّى الروائي اليمني سمير عبد الفتاح (1971) نبأ وفاته الذي تناقلته مواقع إلكترونية عربية التبست عليها حياة وسيرة وصورة الكاتب المنشغل بإنجاز حكايته الخاصة، وموت كاتب مصري يحمل الاسم ذاته.
لم يُذهل "جامع الحكايات" بالموت، وهو ضيف قديم حلّ في عمله الأول "رواية السيد م" (2007) كثيمة رئيسة. فميم العنوان هو نفسه "الموت" بهيبته ورعبه وحركته الخفية. لكن ربما تصلح الشائعة كتفسير للرواية.
"الحياة ليست رواية واحدة، الموت ليس رواية واحدة"، يقول سمير عبد الفتاح لـ "العربي الجديد". ويضيف: "الموت قائم على تفاهمات يرى فيها أشخاص أنه باب لحياة أخرى، أو خلاصٌ من كل ما عانيناه في حياتنا، أو مجرّد فناء. توجد تفسيرات كثيرة للموت بمقدار ما أرهقتنا به الحياة. فقط ما ولدنا به، البكاء، يبقى الشيء الأساسي الذي يجمعنا بفكرة الموت".
ويتابع عبد الفتاح: "لذا، أي موت لا يرتبط بالبكاء والحزن يكون خارج السياق. وفي هذا الإطار كان موت الكاتب المصري سمير عبد الفتاح وإعلان وفاتي أنا نوعاً من هذه التفاهمات. وللحظة بدا الأمر حقيقياً وقابلاً للتصديق، لكن البكاء ارتفع من مكان آخر وانسحب الموت إلى الجهة الأخرى، مؤجّلاً بُكائي إلى وقت آخر".
بعد روايته الأولى، نشر عبد الفتاح ثلاث روايات، هي "ابن النسر" (ترجمت إلى الفرنسية)، "نصف مفقود" (فازت بـ"جائزة دبي للرواية" عام 2009)، "تماس - حياة أخرى". وقبل ذلك، نشر أربع مسرحيات في كتاب واحد، وثلاث مجموعات قصصية، هي "رنين المطر"، "رجل القش.. لعبة الذاكرة"، "راء البحر".
في ظلّ مُتعة الكتابة التي يعيشها، يذهب بعيداً في التلصص على موجودات لا يفقه البشر لغتها، ندخل معها في لذة حكي الهامش. تنفتح التفاصيل الصغيرة على عوالم أوسع من تصوّرنا لها ذهنياً، وتتضاءل مادة الأشياء أمام روحها المُبتكرة، في رحلة قد تبدو هروباً من الواقع بواسطة الخيال:
"لم أستطع حتى الآن وضع مقياس لتحديد ما الهامش وما المتن، ما الواقعي وما الخيالي، ما الهروب وما المواجهة. الأمر نسبي. وأنا على ثقة بأنني لا أواجه أحداً، أو أنني في معركة لدي فيها خيارات النصر أو الهزيمة؛ المواجهة أو الهروب. أكتب ما أشعر أنه يتماهى معي ومع الآخرين. قد يُنظر إليه بوصفه هامشياً، لكنه في أساسه متنٌ، والعكس".
المفهوم النسبي للسرد في أعمال عبد الفتاح يضعها في خانة تجريب ليس من أولوياته القوالب التقليدية، بينما يبدو أسلوبه كسيرة جوهرية محمّلة برؤى فلسفية صارمة. إنها مجازفة تحسب للكاتب في واقع روائي ما يزال طور تشكّله وبحثه عن قارئ؛ لكنه يعتبرها خياراً مغايراً نتج عن قراءاته القليلة للرواية اليمنية وثيماتها الأساسية، وعن إيمانه بأن على الكاتب أن يكون له مفهومه الخاص ليضيف شيئاً على ما أخذه من الآخرين. كما يرى عبد الفتاح أن "الفلسفة جزء من الحياة، جوهرها الوصول إلى العمق. عندما أكتب أدور في هذه المنطقة غير المطروقة لسدّ الفجوة التي تزيح ما نكتب جانباً".
يجيد عبد الفتاح تقديم نفسه للقارئ بما هو متاح لديه، فأعماله التي طُبعت على حسابه تجاوزت محلّيتها إلى العربية حيث فازت بجوائز، كما صدرت روايته "ابن النسر" في طبعة ثانية عن "هيئة قصور الثقافة المصرية"، وترجمت أعماله القصصية إلى الإيطالية ضمن مشروع "بيرل ديلو".
وهذا يقودنا إلى سؤال عن القارئ الذي يضعه نصب عينيه أثناء فعل الكتابة: "حين أكتب أنسى ما يحيط بي، وتكون المنافسة بين أفكاري والأوراق، أيُّهما سيصمد أكثر. لحظة الكتابة لا تسمح لأحد بمشاركتها عقل الكاتب. في مرحلة المراجعة النهائية، تظهر بعض الأفكار، مثلاً إن كان العمل سيقدَّم إلى مسابقة أدبية أو إلى دار نشر، أضيف إليه ما يجعله متّسقاً لقبوله. يخضع بعض الكتّاب لعدد من الضغوط، مثل درجة تقبُّل القارئ للنص، أو هدف إيصال رسائل ما، وبالتالي يحرصون على تجنيب أعمالهم ما يثير. حتى الآن، لا تحاصرني مثل هذه الضغوط. أكتب، وأكتب فقط".
في عام 2009، أعلن الروائيون سمير عبد الفتاح وعلي المقري ووجدي الأهدل ونادية الكوكباني تأسيس عصبة روائية تدعى "نلتقي أمساً"، ونقرأ في بيانها: "نبحث عن الجديد في السرد ونبتكره".
نشطت هذه العصبة عبر تنظيمها فعاليات، لكن الباحث عنها الآن سيجدها في حالة جمود. يطمئننا عبد الفتاح بأنها مستمرة: "أربعتنا ننتمي إلى مدارس مختلفة، جمعنا إحساسنا بأننا نستطيع معاً تقديم شيء جيد لنا وللآخرين. كنا صاخبين في البداية، وعقدنا لقاءات وفعاليات. وكنا ننوي الاستمرار في ذلك، لكننا لم نستطع تدبير موارد مالية ومقر. إلا أننا ما زلنا نحلم ونفكّر دوماً كيف يمكننا أن نطوّر أنفسنا روائياً ونُحدث نهضة في الرواية اليمنية وننقل ثقافة الرواية إلى المجتمع".