سلوتردايك.. مثل مستشرق مبتدئ

29 فبراير 2016
بيتر سلوتردايك، تصوير: كريستيان شنور
+ الخط -

يعتقد الفيلسوف الألماني بيتر سلوتردايك (1947)، الشهير بمواقفه النيوليبرالية، المناهضة للدولة الاجتماعية، بأن السياسة الألمانية الحالية، التي تنهجها المستشارة ميركل تجاه الأزمات التي تواجهها ألمانيا خاصة، وأوروبا عموماً، تنزع إلى نوع من الهروب إلى الأمام.

ويرى في السياق نفسه، بأن المجتمعات الحديثة تتم إدارتها أيضاً وضمنياً، عبر الخوف، رغم أنها تدعي تحرّرها ممّا يسميه "الفوبوقراطية"، التي يعتبرها مضمون السياسة القديمة التي سادت المجتمعات السابقة على الحداثة. لكن الفوبوقراطية ليست حكراً على الدولة، فقد مارسها الفوضويون في روسيا القيصرية، بل وكتب فوضوي ألماني كتاباً يحتفي فيه بالإرهاب، حمل عنوانا معبّراً: "فلسفة القنبلة".

يرى سلوتردايك بأن الإرهاب مثّل في القرن العشرين غالباً إرهاب دولة، وقد مارسته التوتاليتاريات التي وصلت إلى الحكم في كل من ألمانيا وإيطاليا والاتحاد السوفييتي، ورغم أن تلك الأنظمة كانت غير دينية، إلا أنها أرادت، في رأيه، تحقيق جهنم على الأرض بوسائلها الخاصة.

من جهة أخرى، يرى صاحب "الإنجيل الخامس لنيتشه" أن العالم بدءاً من الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، بات يواجه إرهاباً غير مرتبط بدولة معينة، وبالتوازي مع ظهور هذا الشكل الإرهابي الجديد يرصد سلوتردايك ظهور شكل منحرف من الإعلام، إذ يكفي أن تنفجر قنبلة في مكان ما من العالم، حتى تسارع وسائل الإعلام الغربية لنقل أخبارها وبث صورها، فتخلق بذلك أجواءً شبيهة بالأجواء التي تسبق الحروب. يفسّر المفكر الألماني ذلك بأنه يحدث لأن الإعلام يقوم اليوم على الإثارة.

هنا، لا بد من الإشارة إلى أن كتابات سلوتردايك نفسه تنهج الأسلوب ذاته، وتستغل إمكانيات الإثارة إلى حدودها القصوى، سواء من ناحية المفاهيم التي يبرع في ابتداعها، والتي، مثل كل منتج إعلامي، يطويها النسيان بعد فترة قصيرة، أو تلك الأفكار المتطرّفة التي ما برح يردّدها وينشرها. وفي هذا السياق، تخدم الفكرة المفهوم، بدل أن يخدمها المفهوم، إذ كثيراً ما يتولّد عند قارئ سلوتردايك انطباع بأنه يخلق المفاهيم قبل أن يجد الفكرة، وهذا شأن كل أشكال الإثارة، التي تعلي من قيمة الواجهة على حساب المضمون.

وفي ما يتعلق بالمسألة الإسلامية في أوروبا، يفضّل سلوتردايك الحديث عن الإسلام، مثل أي مستشرق صغير أو مبتدئ، غير مفرّق بين سياسات البلدان الإسلامية. وعلاوة على ذلك، يرى أن العودة السلفية إلى مفهوم حربي للجهاد، يرتبط بعجز الإسلام عن أن يكون دولة، وذلك بسبب تكوينه الداخلي. من الصعب على متابع أفكار سلوتردايك فهم ما الذي يعنيه هذا الأخير بالتكوين الداخلي للإسلام، خصوصاً حين يؤكد المفكر الألماني في أكثر من مناسبة أن الإسلام عاجز عن أن يكون مجتمعاً، ويرى أنه مع الإسلام لا يمكن بناء مجتمع مدني!

لعله ينبغي علينا العودة إلى تقاليد التفكير الفلسفي الألماني كي نفهم ما يأتي به سلوتردايك في هذا المجال، فحديثه عن الشريعة الإسلامية قريب ومنسجم مع الأحكام المسبّقة لأسلافه من فلاسفة المثالية الألمانية حين تناولوا الشريعة اليهودية ضمن الثقافة الأوروبية، والتي اعتبروها مناقضة للحرية، وهذه الأخيرة تجد فضاءها في المجتمع المدني.

هكذا نفهم لماذا يرى المفكر الألماني أن الشريعة الإسلامية تقف ضد تكوين مجتمع مدني، كما نفهم كيف يحصر الإسلام في بعده القانوني فقط، ويرى أنه يريد بناء مجتمع يحكمه قهر القانون. أحياناً يتجاوز سلوتردايك ذلك بالقول إن المسلمين لا يمكنهم الخروج من وضعهم ما لم يستبدلوا دينهم بدستور مدني، معتبراً أن ثقافة الإسلام لا تعرف دستوراً.

لا غرو أننا نقف هنا عند تجليات العلاقة بين الفكر الديني وفكر الحداثة اليعقوبي. فسلوتردايك لا يعيد علينا إلا ما نعرفه من أدبيات الإسلام المتطرّف، متناسياً أن تلك الأدبيات تمثل وجهة نظر جزء صغير داخل المجتمعات الإسلامية، بل داخل الخطاب الإسلامي نفسه، بما فيه خطاب الإسلام السياسي. كما أنه يغفل، في شطحه الثقافوي، أن الإسلام السياسي المتطرف هو نتاج ظروف تاريخية معينة، ساهمت الحداثة نفسها، بنزعاتها الإمبريالية، في خلقها أو على الأقل في خلق الظروف التي أنتجتها.

أما في ما يتعلق بقضية اللاجئين، فإن سلوتردايك يعتبر أن الدولة الألمانية فقدت سيادتها، حين سمحت بعبور اللاجئين للحدود الأوروبية، معتبراً أن اللاجئين يستغلون ضعف دولة ما بعد الحداثة، التي حلمت دائماً بحدود مفتوحة، ومعتبراً أن سياسة الحدود المفتوحة التي تنهجها المستشارة الألمانية لن تعرف نهاية جيدة. ولا عجب في هذا السياق أن يجدّد الحديث عن عدائه للمشروع الأوروبي، إذ إن العداء للإسلام وللأجانب عموماً، يمضي يداً في يد مع العداء للمشروع الأوروبي، فهو يؤكد بأن ازدياد عدد اللاجئين، سيزيد أوروبا ضعفاً.


اقرأ أيضاً: الأنوار الأوروبية والعنصرية الحداثية

دلالات
المساهمون