15 نوفمبر 2024
سقط الرمز عاش الرمز
عاشت سورية ويسقط حافظ الأسد.. كان عجوز ثمانيني يهتف بهذا الشعار وحده، بينما كان الشباب يهتفون جميعاً: عاشت سورية ويسقط بشار الأسد، وحين سمعه الشباب قالوا له: يا شيخنا، حافظ الأسد مات منذ زمن، من يحكم سورية اليوم هو ابنه بشار الأسد، جاء رد العجوز هادئاً وواثقاً: نعم، أعرف ذلك، لكن شعار إسقاط حافظ الأسد بقي واقفاً في حلقي، ويخشى الظهور منذ ثلاثين عاماً، سأسقطه قبل أن أموت، كي يموت هو أيضاً داخلي.
كان ذلك في إحدى مظاهرات برزة البلد في ريف دمشق، في الشهر الثاني من الثورة، حين كانت المظاهرات في ريف دمشق، في برزة تحديداً وقتها، كما دوما وداريا والزبداني، تضم ناشطين، صبايا وشباب، قادمين من كل أنحاء سورية، لمشاركة شباب ريف دمشق مظاهراتهم. يومها، وبعد رد العجوز، صار الشباب والصبايا يرددون معه: عاشت سورية ويسقط حافظ الأسد. ويلخص مشهد العجوز البرزاوي مأساة سورية بكاملها، سوريون، بفعل فائض القمع والإجرام الأمني، وتاريخ نظام الأسد في ثمانينيات القرن الماضي، ومجازر حماة وحلب، والقتل الجماعي في المعتقلات، تمكن الخوف منهم عقوداً طويلة، حتى أخرسهم عن قول ما كان عليهم قوله قبل سنوات، إلى أن فجر شباب سورية ثورتهم الاستثنائية، وتفجر معها كل ذلك الغضب الكامن في الذاكرة الجمعية السورية. أدرك الجميع وقت الثورة، أن الطريقة الوحيدة للنصر هي بإسقاط حافظ الأسد، أولاً، عبر تهشيم تمثال الخوف العالي الذي شيده استبداده في الوعي السوري، التمثال النفسي الذي كان السوريون يرونه مجسماً أمامهم، في كل مناطق سورية وشوارعها وساحاتها، على هيئة المستبد نفسه، حجراً بارداً، أو معدناً رخيصاً أشد برودة.
هذا المشهد اليومي والدائم لقباحة الخوف كان يجب أن يتحطم، بالحناجر، بالأيدي، بالمطارق، بكل شيء. كان يجب أن يتحطم، ومعه يتحطم تاريخ كامل من القهر والفساد والمظالم والإقصاء وفقدان الأمل واليأس وعدم الانتماء. مع هذا التحطيم، كانت تتأسس الرغبة بإعادة صياغة الوطن، الوطن بوصفه الأمان، وبوصفه المستقبل، وبوصفه الانتماء، وبوصفه التحقق، بوصفه كل ما هو مضاد لما حدث خلال ستة عقود. ولكل ما تراكم من الخوف، إسقاط تماثيل الأسد الأب جاء من هنا، من تلك الرغبة العميقة والمتأخرة بالتغيير، لدى شريحة كبيرة من السوريين! حماية ما تبقى من تماثيل الأسد الأب جاء، أيضاً، من المنطقة العميقة نفسها، وإنما هي المنطقة المضادة، المنطقة التي استوطنها الخوف، إلى حد اعتبار التغيير خيانة عظمى، لا أتحدث، هنا، عن النظام ومستوياته الأمنية والعسكرية، وإنما عن شرائح بشرية ومجتمعية، كانت مستعدة للموت، منعاً لتحطيم التمثال، التمثال الذي كان بالنسبة لها وهم الأمان والمواطنة المدللة. التغيير كان سيكشف هذا الوهم، ويعري أساساته الهشة، مثلما عرّى تحطيم التماثيل وحرقها المعدن الرخيص الذي صنعت منه، بيد أن افتراقات الثورة السورية، وما اعتراها من متغيرات، وتحولها إلى حرب طوائفية في قشرتها الخارجية، وحرب مصالح دولية، لم يتورع النظام السوري عن زج السوريين، كل السوريين، بها، وما أظهرته الطبقة السياسية المعارضة من فساد واستزلام وسهولة اختراق، أعاد السوريين إلى دائرتهم الأولى، الخوف، وما سبقه من تجريف نفسي بفعل العنف، والشعور بالتخلي والخذلان واليتم. وأعاد بناء تماثيل الوهم في الوعي السوري الجمعي، وأجبر السوريين على اختراع رموز جديدة، لتملأ الفجوة الذي خلفها الموت اليومي، وبدأوا هم أنفسهم بتخوين كل من يتناول هذه الرموز بنقد أو بتحليل أو بتساؤل أو باستهجان، ويا للدهشة، ما تعرضوا له سابقاً من دائرة النظام باتوا يسقطونه على من يحاول تحطيم رمز أو تمثال جديد أو قديم، بحيث بتنا نعيش، نحن السوريين، وسط هستيريا جمعية، تعلي الرموز والتماثيل وتسقط سورية.
كان ذلك في إحدى مظاهرات برزة البلد في ريف دمشق، في الشهر الثاني من الثورة، حين كانت المظاهرات في ريف دمشق، في برزة تحديداً وقتها، كما دوما وداريا والزبداني، تضم ناشطين، صبايا وشباب، قادمين من كل أنحاء سورية، لمشاركة شباب ريف دمشق مظاهراتهم. يومها، وبعد رد العجوز، صار الشباب والصبايا يرددون معه: عاشت سورية ويسقط حافظ الأسد. ويلخص مشهد العجوز البرزاوي مأساة سورية بكاملها، سوريون، بفعل فائض القمع والإجرام الأمني، وتاريخ نظام الأسد في ثمانينيات القرن الماضي، ومجازر حماة وحلب، والقتل الجماعي في المعتقلات، تمكن الخوف منهم عقوداً طويلة، حتى أخرسهم عن قول ما كان عليهم قوله قبل سنوات، إلى أن فجر شباب سورية ثورتهم الاستثنائية، وتفجر معها كل ذلك الغضب الكامن في الذاكرة الجمعية السورية. أدرك الجميع وقت الثورة، أن الطريقة الوحيدة للنصر هي بإسقاط حافظ الأسد، أولاً، عبر تهشيم تمثال الخوف العالي الذي شيده استبداده في الوعي السوري، التمثال النفسي الذي كان السوريون يرونه مجسماً أمامهم، في كل مناطق سورية وشوارعها وساحاتها، على هيئة المستبد نفسه، حجراً بارداً، أو معدناً رخيصاً أشد برودة.
هذا المشهد اليومي والدائم لقباحة الخوف كان يجب أن يتحطم، بالحناجر، بالأيدي، بالمطارق، بكل شيء. كان يجب أن يتحطم، ومعه يتحطم تاريخ كامل من القهر والفساد والمظالم والإقصاء وفقدان الأمل واليأس وعدم الانتماء. مع هذا التحطيم، كانت تتأسس الرغبة بإعادة صياغة الوطن، الوطن بوصفه الأمان، وبوصفه المستقبل، وبوصفه الانتماء، وبوصفه التحقق، بوصفه كل ما هو مضاد لما حدث خلال ستة عقود. ولكل ما تراكم من الخوف، إسقاط تماثيل الأسد الأب جاء من هنا، من تلك الرغبة العميقة والمتأخرة بالتغيير، لدى شريحة كبيرة من السوريين! حماية ما تبقى من تماثيل الأسد الأب جاء، أيضاً، من المنطقة العميقة نفسها، وإنما هي المنطقة المضادة، المنطقة التي استوطنها الخوف، إلى حد اعتبار التغيير خيانة عظمى، لا أتحدث، هنا، عن النظام ومستوياته الأمنية والعسكرية، وإنما عن شرائح بشرية ومجتمعية، كانت مستعدة للموت، منعاً لتحطيم التمثال، التمثال الذي كان بالنسبة لها وهم الأمان والمواطنة المدللة. التغيير كان سيكشف هذا الوهم، ويعري أساساته الهشة، مثلما عرّى تحطيم التماثيل وحرقها المعدن الرخيص الذي صنعت منه، بيد أن افتراقات الثورة السورية، وما اعتراها من متغيرات، وتحولها إلى حرب طوائفية في قشرتها الخارجية، وحرب مصالح دولية، لم يتورع النظام السوري عن زج السوريين، كل السوريين، بها، وما أظهرته الطبقة السياسية المعارضة من فساد واستزلام وسهولة اختراق، أعاد السوريين إلى دائرتهم الأولى، الخوف، وما سبقه من تجريف نفسي بفعل العنف، والشعور بالتخلي والخذلان واليتم. وأعاد بناء تماثيل الوهم في الوعي السوري الجمعي، وأجبر السوريين على اختراع رموز جديدة، لتملأ الفجوة الذي خلفها الموت اليومي، وبدأوا هم أنفسهم بتخوين كل من يتناول هذه الرموز بنقد أو بتحليل أو بتساؤل أو باستهجان، ويا للدهشة، ما تعرضوا له سابقاً من دائرة النظام باتوا يسقطونه على من يحاول تحطيم رمز أو تمثال جديد أو قديم، بحيث بتنا نعيش، نحن السوريين، وسط هستيريا جمعية، تعلي الرموز والتماثيل وتسقط سورية.