سعيد المساري.. ورق لاستعادة الذاكرة

10 ابريل 2014
الرأس البشري كنموذج تشكيلي خالص
+ الخط -
 
يحتضن رواق دار الفنون (Villa des Arts) في مدينة الرباط حالياً معرضاً تشكيلياً للفنان المغربي سعيد المساري (مولود عام 1956) يحمل عنوان "مختبر 24" الذي يعكس طبيعة شغله المختبري التجريبي.

ويضم المعرض نحو ثلاثين عملاً فنياً أنجز الفنان معظمها خلال السنتين الماضيتين بتقنية النحت على ركائز من ورق، وتوسّل في إبداعها المزج بين أكثر من تقنية تشكيلية (نحت، حفر، صباغة، لصق ورسم)، في محاولة منه لتذويب تلك الفوارق التي تميّز تقنياً الممارسات الفنية عن بعضها، ثم لوضع اليد على خلفيات حدود التقاطع والقرابة بين أشكال تشكيلية مختلفة.

ويندرج هذا المعرض ضمن سلسلة من المعارض أقامها المساري خلال السنوات الأخيرة، سواء في المغرب أو في أوروبا أو في أمريكا اللاتينية، وكانت جميعها مسكونة بحس تجريبي واضح ومجتهد، مكّن هذا الفنان من رسم حدود لمسته الفنية وصقل موهبته الجمالية، بما هي رهان على موضوعة الإنسان في علاقته بمختلف المؤثرات الخارجية التي تتحكم في مصيره وتوجه تفكيره وتحدد اختياراته.

ويتجلى هذا الرهان، شكلياً، من خلال توظيف الفنان لرسم رأس إنسان منفصلاً عن باقي مكونات الجسد، باعتباره شكلاً خالصاً، لا يحمل أية علامة تحيل إلى طبيعة هويته (ذكر أو أنثى). إذ يحضر هذا الرأس أحياناً محشواً بالحشائش وأحيانا أخرى بالأسلاك. وفي لوحات أخرى يظهر مثبتاً بخيوط من حرير في ما يشبه التوازن المشدود إلى فراغ. وفي ذلك، يحاول الفنان ـ في تقديرنا ـ التركيز على عدد من الحالات الإنسانية، في ارتباطها بالطبائع الذهنية والفكرية التي تعكس مختلف العقليات الممكنة. كما تستكشف هذه الأعمال التنوع الذي يميّز كائناً عن آخر، فكرياً أو معرفياً.

أما على المستوى التقني، فبالإضافة إلى الأناقة في لوحات هذا المعرض والاشتغال الدقيق الذي تعكسه لمسة الفنان الحاذقة والهادئة والمتأملة، يظهر واضحاً ذلك الاختيار النبيه للمواد وطريقة توظيفها بحس إقلالي (Minimaliste) فوق سند ورقي يتيح هو الآخر إمكانية مضاعفة الاستكشاف والمفاجأة، على عكس سند القماش أو الحديد أو ما شابه.

ومن ذلك، لجوء الفنان إلى خلق تجاور ذكي بين الورق وخيوط معدن الفضة، أو بين الحشائش وخيوط الحرير والورق، أو بين كل هذه العناصر مجتمعة وأعواد الخشب؛ وكلها استخدامات سعى الفنان إلى توظيفها في انسجام غير مفتعل أو تزييني مجاني، يُنتج عملاً فنياً مكتفياً بتخفّفه من كل الزوائد، سواء اللونية أو الشكلية.



ويبدو ذلك جلياً من خلال غياب شبه كلّي لعنصر اللون. فإذا ما استثنينا لوحتين أو ثلاث فقط جاءت ملوّنة، فإن باقي أعمال المعرض تبدو مكتفية بحمولاتها "المادية"، حافلةً بالورق بعد إخضاعه لتحولات كيميائية واضحة. ولعل هذا الاختيار التجريبي المغامر هو ما يدعم انحياز المساري إلى تقنيات النحت غير السامة، التي اختارها لخرط عمله الفني في سياق الانشغال العالمي بحماية البيئة من كل أشكال التأثير المعيبة. وهو ما دأب الفنان على تأكيده في كل معارضه، وما ركّزت عليه دراسات نقدية كثيرة تناولت عمله الفني.

ومن هذا المنطلق، يذهب المساري، في ورقته التقديمية لهذا المعرض، إلى اعتبار أعمال هذه المحطة الفنية تكريماً لذاكرة أولئك الذين فقدوا ذاكرتهم؛ وهو ما يجسده اعتماده على تقنية التجسيد التي أسفرت عن أعمال فنية متنوعة ومختلفة تتراوح في تقنياتها بين الحفر والنحت على الورق المعجّن لتصل إلى استعمال صباغة الأكريليك ثم الرسم واللصق.

ومن خلال هذا التعاطي التجريبي مع مختلف التقنيات التشكيلية، يتحوّل القوام السيميائي للرسومات أو الغرافيك أو النحت إلى مجرد ظلال لصور تبدو على شكل "صور جانبية" لوجوه هلامية غير محددة الملامح. حيث لا يتم التأشير، في هذا الفعل الجمالي، إلى ما هو فُرْجَوي بقدر ما يتم التركيز على الورق في حالاته المتحولة، كاملاً أو مقطعاً أو منحوتاً بتقنية ثنائية أو ثلاثية الأبعاد. كل هذه الاستعمالات يعتبرها الفنان أسئلة مفتوحة لا تحتاج إلى أجوبة بقدر ما تعكس هشاشة واضحة، هي في الأصل هشاشة ورق الذاكرة، بمعناه المضاعف.



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يستمر المعرض حتّى 31 أيار/ مايو 2014

دار الفنون، 10 زنقة بني ملال، زاوية شارع محمد الخامس ـ حسّان، الرباط

دلالات
المساهمون