سرُّنا المشترَك

09 فبراير 2015
+ الخط -
كنتُ متعَباً ولجأتُ إلى الفراش. لستُ أدري لماذا خَطَروا لي ثانيةً، تلك الليلة، وكانت مضت ثلاث سنوات على تصفيَتهم التي شهدتُ عليها من خلال سماع صراخهم البعيد وتَحَسُّس هَلَعهم، من دون أن أراهم.
قبل أن أنام، نظرتُ إلى ساعة يدي ووضعتها إلى جانبي على الطاولة الصغيرة. منتصف الليل وعشر دقائق. أطفأتُ الضوء وأطبقتُ عينيّ على الفور. عادةً، كنت أنتظر أن تألف عيناي الظلمة لأتبَيّن الأشياء حولي: الطاولة والكرسيّ والخزانة والستائر المسدلة، وقد همدَت واتخذت مظاهر أخرى تبدو فيها كُتَلاً مجرّدة، كأنّها هي أيضاً تحتاج إلى الهدوء. تغيب ألوانها ويُستدَلّ عليها فقط بأحجامها الثابتة. هذه الأشياء نفسها تبدو هادئة وأليفة عندما يكون مزاجي صافياً، وتكون باردة، بل مخيفة أحياناً، عندما أكون خائفاً أو غاضباً، أو بعد مرور نهارٍ عاصف.
الواحدة والربع، أي بعد ساعة وبضع دقائق فقط، أجدني صاحياً. الصحو الحادّ الذي لا يتمكّن منه النوم. يتسرّب من المسامّ ومن العينَين المغمضتَين ويفتحهما. النوم لا يمكث كثيراً في جسدٍ مضطرب. أمّا الصورة التي لاحت أمامي قبل أن أطفىء الضوء، وظلّت ملتصقة بعينَيّ، فهي التي أيقظَتني. صورة الذين كنتُ أسمع عويلهم ولا أراهم. كانوا من مقاتلي ميليشيا الطائفة الأخرى. حاصروهم ليلاً واعتقلوهم، ثمّ أخذوهم إلى التلّة المقابلة لمنزلنا الشتويّ. كانت تفصل بيننا بساتين زيتون وبرتقال، يقطعها إلى نصفَين النهرُ المتدفّق من أعالي الجبال.
عندما ينكسر نومي فجأةً ويخرج عن مساره، تنفتح عيناي في العتمة وأعرف غالباً ما الذي أيقظني. ألمس الفكرة التي كانت تجول في رأسي وأرى الصورة التي تتحرّك وراء جفنَيّ المغمضَين. تصبح الصورة قبالتي كأنها تتحدّاني. وهي تتحدّاني بالفعل، تفرض نفسها عليّ وتوقظني من نومي. 
عندما ننام لا تنام الأفكار في قفص أحلامنا المشرَّع الأبواب. تلتقي أو تتصارع في ما بينها، على غفلة منّا. نحن مَن ينام أمّا الجسد فيظلّ يحلم ويشيخ، ماضياً بانتظام نحو مصيره وحتفه. الموت العاديّ الدؤوب ليس هو ما يشغلني الآن. لا ينحسر التفكير في هذا الموت إلاّ أمام موت آخر أشدّ وطأة وأكثر إيلاماً. موت آخر متعجّل وملحاح، أعمى وقاطع، يتقدّم دون إنذار ولا يحتاج إلى ذرائع.
ما جرى داخلي في برهة النوم تلك، كان أقوى من نومي، ونومي، أصلاً، هشّ ورخو. أبوابه مخلّعة ونوافذه أرقّ من جناحَي فراشة. تكفيني لأستيقظ حركةُ غصن يهتزّ لنسمة عابرة في حلم امرأة تنام إلى جانبي، فكيف إذا كان ما يتناهى إلى سمعي هو صراخ الذين سيقوا إلى الموت؟ ذاك الصراخ الذي يتداخل فيه، كضفائر حديديّة مجدولة، الخوف والرّعب، الوجع والهلَع. تلك الليلة، لم يكن في مستطاعي أن أغمض جفنَيّ، لكن، في الوقت نفسه، لم أكن قادراً على الحراك. كالحيّة الخائفة كنتُ. ظللتُ في فراشي طوال الوقت أنتظر الضوء معلناً مجيء النهار. الضوء المخلِّص الذي أحتاج إليه لأتأكّد من أنّي لا أزال حياً ولم أمتْ مع الذين ماتوا أثناء الليل. كنتُ أحسّ أنّي وحدي في المنزل، غير أنّ أبي وأمّي، وكذلك إخوتي الثلاثة، كانوا كلّهم هناك. لكنّي أظنّ أنّ الجميع كان يسمع ما أسمعه ولا يجرؤ مثلي على الحراك. كان كلّ واحد منّا يشعر أنّ ما يجري في الظلمة، قبالة بيتنا، هو سرّه وحده. أنّ الصراخ الذي يحمله الليل واضحاً مدوّياً لا يسمعه أحد سواه. كان كلّ منّا يريد أن يخفي هذا الجرح الفاغر في العراء، كمن يخفي خنجراً في قلبه.
بدأ الصراخ خفيفاً متقطّعاً تتخلّله أصداء كلمات بعيدة وغير مفهومة. صوتٌ واحد ملتهب ينطلق فجأة ويشقّ سكون الليل. صراخ فرد واحد أخذ يتصاعد شيئاً فشيئاً. صرخة وراء صرخة. هل هو فعلاً رجلٌ واحدٌ هذا الذي يطلق الصرخة المذعورة؟ رجلان يصرخان معاً. رجال ثلاثة. مجموعة رجال. جوقة مأتمية لمنشدين يؤدّون بأنفسهم جنّازهم الوداعي الأخير. صرخات تنقطع في منتصفها كأمواج عالية تتكسّر على الصخر. الصراخ يتحوّل فجأة إلى ما يشبه عواء الكلاب التي تُشوى وهي حيَّة. لو كان في مقدور الحنجرة أن تؤدّي الصرخة الأعلى من كلّ الصراخ، وينتهي بعدها كلّ شيء. أين الموت الرحيم يجتثّ الحياة كوميض في سماء مظلمة يظهر فجأة وسرعان ما ينطفئ؟ يقول لنا إنّ ما كان لم يكن يوماً على الإطلاق. الإمعان في الموت، وبهذا التوحّش، يفتح الهاوية التي في أعماقنا ويدلّنا عليها. تلك اللحظة لا تقاس بمقاسات الزمن العادي.
كلمات غير مفهومة تأتي من بعيد. همهمة. نداءات استغاثة. أصوات حادّة مروّسة جارفة، تنحرف عن الصوت البشري. ترينا مقلب الصوت الآخر للإنسان. مقلب الصوت الآخر للحيوان. كان الصراخ أشبه بجعير العُجول المهيّأة للذبح. العُجول التي رأت السكاكين تقترب من أعناقها تتحسّس هي أيضاً الموت حين لا يأتيها على غفلة. أتكوّر على نفسي، أجمع قدمَيّ الاثنتَين وألوي ركبتَيّ. أوجّههما نحو صدري الذي أحاول أن أضغطه بين كتفَيّ لعلّني أجد فجوة أخفي فيها وجهي. أرفع الملاءات البيضاء فوق رأسي الذي أحاول أن أطمره بعيداً عن الصرخات التي تزداد عنفاً وتقترب منّي، تلاحقني، تخترق الغرف الموصدة، تتسرّب من المسام كلسعات حارقة لا أعرف كيف أحتمي منها.
الصراخ يتحوّل إلى أنين خافت ثمّ ينطفئ. هناك صوتٌ واحد ظلَّ يرتفع بين الحين والأخر، ربّما هو الصوت الأوّل الذي انطلق في البداية. يتقطّع هذا الصوت الأخير بدوره ويتلاشى. يحلّ فجأةً صمتٌ خانق مثل البحر حين يبتلع الغرقى.
لم أنم تلك الليلة، لكنّني غفلتُ قليلاً حين رأيتُ خيطاً من ضوء يتسرّب بين الستائر، وأحسستُ أنّ الصباح الذي ظننته لن يأتي بعد اليوم، عاد من جديد. غفلتي لم تكن طويلة، صحوتُ منها كمن يصحو من كابوس. في تلك الغفلة، رأيتُ المقتولين قبل لحظات قليلة من القتل يقفون معاً كما في لوحة "الثالث من مايو" لفرانثسكو غويا. الوجوه التي كنتُ أتخيّلها منذ لحظات، تكشّفت أمامي. لكنّها، هنا، هادئة القسمات بخلاف ما يطالعنا في اللوحة. رأيتُ المحكوم عليهم بالإعدام واقفين بهدوء كأنهم يستعدّون للقيام برحلة، أو لتقديم عرض مسرحيّ. وجوه مسترخية عابثة. أحدهم كان ينظر إليّ ويبتسم، لكنّ ابتسامته ضاعفت الخوف في نفسي. تساءلتُ وأنا لا أزال في المنام: ما بال هؤلاء يقفون وحدهم؟ أين معذّبوهم وقاتلوهم؟ هل هم فعلاً أولئك الذين صمتوا وماتوا منذ قليل، وهم الآن ينتظرون موتاً جديداً بهذا الهدوء المريب؟ 
استيقظتُ من نومي حين اقترب أحدهم منّي ونهرني قائلاً: "ما الذي جاء بك إلى هذا المكان، في هذه اللحظة بالذات؟ عليك أن تمضي بسرعة وإلاّ اعتبروك واحداً منّا!" 
في الصباح، اجتمعت العائلة حول مائدة الفطور. كالعادة، تَحدَّثنا عن أشياء كثيرة عامّة. كان والدي يستطرد في الحديث عن الطقس وصفائه بينما تهبّ نسمة منعشة في الخارج، تحمل إلينا، عبر الشرفة المفتوحة، ضَوع أزهار الليمون.
كان كلّ منّا يخفي سرّه في نفسه، وهو سرّنا المشترَك جميعاً.


المساهمون