أشيع كذباً أن الشعب المصري لا يثور، ولا يعرف للثورة طريقاً، وهي الفريّةُ التي ما فتئ كَتَبَة النظام وزبانيته يردّدونها وقتاً طويلاً، قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير. بيد أن أكثر الباحثين يدركون أن للتاريخ رأياً آخر، يقول يأن الشعب المصري من أكثر الشعوب ثورة، لكنه في المقابل من أكثر من تعرضت ثوراته للإجهاض أو السرقات، فلم تعش له ثورة.
في العام 1798، اندلعت ما عُرفت بثورة القاهرة الأولى التي قادها شيوخ الأزهر الشريف، وموّلها التجار وشارك فيها عامة الشعب المصري، ضد الاحتلال الفرنسي.
وذلك كرد فعل على فرض الاحتلال الضرائب الباهظة، وقيام قواته بتفتيش البيوت والدكاكين وهدم المساجد، لكن نابليون واجه الثورة بعنف، فأدخل جنوده بخيولهم الجامع الأزهر، وحكم على ستة من شيوخه بالإعدام، واقتيدوا إلى القلعة حيث ضُربت أعناقهم، فأجهضت تلك الثورة وأعدم الثوار.
بعدها بعامين فقط، اندلعت ثورة القاهرة الثانية التي قادها المجاهد عمر مكرم عام 1800. استطاع مكرم، وبفضل المقاومة الشعبية ومبايعة المصريين له، خلع خورشيد باشا، الذي استبدّ وأفسد حينها. نجحت الثورة وساعدت محمد علي في تولّي أمور البلاد، حتى تمكن الأخير من السيطرة على الحكم، وعقب تلك السيطرة تخلّص من زعماء الشعب وعلى رأسهم عمر مكرم، حدد إقامته بمدينة دمياط ومدينة طنطا، التي توفي فيها.
يقول المؤرخ الرفاعي، نقيب الأشراف، عن المجاهد عمر مكرم: "لم يعرف فضله ولا كوفئ على جهاده، بل كان نصيبه النفي والحرمان والإقصاء من ميدان العمل، ونكران الجميل".. ذهب مكرم. دُفن ودفنت معه أحلام الثورة، وتلك هي الثانية.
زرع محمد علي شجرة الاستبداد المشؤومة، فتوارث أبناؤه وأحفاده الحكم، حتى قال حفيده الخديوي توفيق يوماً: "لقد ورثت هذه البلاد عن آبائي وأجدادي، وما أنتم إلا عبيد إحساننا".
وهذه الكلمات الأخيرة تلخّص ما آلت إليه الأمور التي دفعت إلى الثورة العرابية، التي قادها الضابط أحمد عرابي ومجموعة من رفاقه. وقعت المواجهة بينهم وبين الخديوي عام 1881، يومها قال عرابي مقولته الشهيرة: "لقد خلقنا الله أحراراً، ولم يخلقنا تراثاً أو عقاراً؛ فوالله الذي لا إله إلا هو، لا نُورَّث، ولا نُستعبَد بعد اليوم".
رضخ توفيق رضوخاً مؤقتاً واستجاب لعدد من مطالب الثورة العرابية، فتدخلت إنجلترا وفرنسا حتى عصفتا بهذا النجاح، فأصرتا على إدارة شؤون الخزانة المصرية، بحجة العقلية الاستعمارية المتغطرسة التي روجت لفكرة أن الشعوب الشرقية لا تصلح لإدارة شؤونها! توفي عرابي عام 1911، وقضت أحلامه، فصرنا إرثاً غير محررين لسنوات مديدة بعد ذلك، وهذه هي الثالثة.
جاء عام 1919، تجددت أحلام الثورة ضد الاستعمار والظلم والفساد والمعاملة القاسية، والأحكام العرفية، فقاد الزعيم سعد زغلول ثورة انفجرت في كل مكان وشاركت فيها النساء، واضطر المحتل البريطاني على أثرها للرضوخ. وصحيح أن الثورة نجحت جزئياً وأخذت بعض حقوقها، لكن آخر جندي إنجليزي لم يرحل عن مصر إلا في عام 1956، أي أن هدف الثورة ظل 34 عاماً حتى تحقق جزء منه، وهذه هي الرابعة.
في الثالث والعشرين من يوليو/ تموز عام 1952، جاء الانقلاب في زي الثورة، الذي قاده وخطط له الضباط الأحرار وأيدته جموع شعبية بعد ذلك، ضد الملكية والإقطاع والاستعباد، وطلباً لتحقيق الديمقراطية، ضم مبادئ ستة أخرى.
نجحوا في السيطرة على الأمور، وطرد الملك، وعلت أصوات ناصر بالقول: "ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد". برز بعدها الصراع على السلطة بين الرفاق، ولم يتحقق من أهداف الثورة إلا بعضها، فظللنا خافضي الرؤوس ستين عاماً بعدها، وهذه هي الخامسة.
ومن رحم الفقر والجهل والمرض والاستئثار بالثروة والسلطة، خرجت أحلام الشباب في ثورة الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني 2011. حيا الجيش الثورة والثوار، وقدم واجب التحية للشهداء، ثم ما لبث أن طعنها بسكين مسموم ليعيد الأمور إلى نصابها، ويخرج رموز نظام قامت عليه الثورة من سجونهم ليضع مكانهم شباب الثورة ورجالها.
أربع سنوات أو يزيد تمر على ثورة الخامس والعشرين من يناير، ولم يقف الأمر عند انهيار أحلامها في العيش والحرية والكرامة والعدالة، بل إن الأمور زادت سوءاً وما كان استبداداً ناعماً قبل الثورة، أضحى استبداداً خشناً لا يعرف غير لغة القتل والسجن لكل معارضيه.
أسباب ضياع تلك الثورات الخمس تتشابه أو تختلف، وقد يكون للبحث فيها مكان آخر، أما المؤكد أنه لو أن ثورة واحدة منهن بلغت سن الرشد، لما كنا بحاجة إلى ما بعدها.
(مصر)