تظهر مساحات الانشغال التي استغرقت حياة المفكّر السوري صادق جلال العظم في أوج سنوات عطائه، جليّة، كمساحات مفخّخة بالكثير من الصدام والالتباس، نظراً للثيمة الفكرية والسياسية والفلسفية التي أعمَل فيها حفراً صاحب واحد من أبرز المشاريع الفكرية والنقدية في العالم العربي في قرنه الماضي؛ ابتداءً من دفاعه النقدي والفني، على حدّ قوله، عن آيات سليمان رشدي الشيطانية، ثم مجاهرته بمفردة "الهزيمة" بعد حرب 1967 في كتابه "النقد الذاتي بعد الهزيمة" الذي صدر بعدها بعامٍ واحد، في مواجهة المحاولات اللغوية التخفيفية (نكسة، هزّة) التي عمد إليها صحافيّو وكتّاب الثقافة العربية، سواء من الطليعيين أو من كتاب الأنظمة.
لكن انشغال المفكّر المشاكس، بسجالات الإنتلجنسيا العربية بأطروحاته عن "ذهنية التحريم" و"ما بعد ذهنية التحريم" و"دفاعاً عن المادية والتاريخ" وغيرها، لم يمنعه من الدخول في عشّ دبابير "المدّ الثوري" الفلسطيني، في كتابه الشهير "نقد فكر المقاومة الفلسطينية" (1973).
بنى العظم تحليله لفكر المقاومة الفلسطينية في الكتاب على فرضية مفادها أن هذه المقاومة هي جزء من حركة التحرّر العربي التي قادتها الأنظمة القومية في كلٍّ من مصر وسورية والعراق، على وجه الخصوص، بتركيبتها وقيادتها ومصالحها وعقليتها، وإذا كانت الحركة الأكبر قد هُزمت أمام المشروع الصهيوني (هزيمة 1967) فلن يكون مصير الفرع النامي من الأصل، أي المقاومة الفلسطينية، بحال أفضل، فالمقاومة الوليدة ورثت ضمن ما ورثته انتكاسات امتدادها للشجرة الأم.
فوق ذلك، انتقد العظم بشدّة افتقاد هذه المقاومة إلى النظرة الشمولية الجدلية، وبالتالي افتقادها إلى خطّة ومراحل محدّدة للهدف، واصفاً أساليبها بالقديمة في العمل السياسي، وطُرقها بالبالية في تعاملها مع الجماهير العريضة والتي أدّت في نهاية المطاف "إلى إعطاء العالم سنداً يستند إليه أمام الجماهير والأنظمة العربية لتبرير مؤامرتها ضد حركة المقاومة".
نقد مبكر لمأزق "فتح"
كما أشار في أكثر من موضع، إلى التناقض الذي وقعت به فصائل المقاومة وعلى رأسها "حركة فتح"، في إطار المفهوم الثوري الذي تطرحه وما يحصل من نقيضه على الأرض، ما يدلّ على عدم وضوح ما تسعى إليه بشكله الاستراتيجي.
وفي موضع آخر، يدير العظم دفّة النقد باتجاه فشل فصائل المقاومة الفلسطينية، آنذاك، في إدراك أهمية التحوّلات الاجتماعية في صفوف الجماهير، وبالتالي افتقاد الفصائل للقدرة على الارتقاء بالجماهير أو مساعدتها في التخلّص من وعيها الشعبي العفوي الموروث من خلال إعادة صوغ وعي الجماهير في مؤسّسات الثورة، باعتبار أن المقاومة لا تقتصر وظيفتها على قتال العدو فقط.
لم تتوقّف حدود نقده لفكر المقاومة عند هذه الحدود، بل تعدّى ذلك إلى نزع الصفة الثورية عن عمليات خطف الطائرات باعتباره منزلقاً تورّطت فيها غالبية فصائل العمل المسلح بداعي التركيز على المكتسبات الصغيرة والسريعة والآنية بدلاً من الذهاب نحو الاستراتيجي والإنساني الأعم.
وكنتيجة لهذا الموقف، وجدت قيادة "منظّمة التحرير" آنذاك في كلام صاحب "في الحب والحب العذري" ما لا يمكن السكوت عنه، ليتلقّى العظم تهديدات جديّة بالقتل من أطراف متنفذة في المنظّمة دفعته للهرب من بيروت إلى دمشق؛ ومن ثم سُحب كتابه "نقد فكر المقاومة الفلسطينية" من السوق، مع توجيه "أمر" إلى الناشر بعدم إصدار أي طبعة جديدة، ما جعل من الحصول على نسخة من هذا الكتاب متعذّراً لوقت طويل.
لم تنته المسألة عند هذا الحدّ، إذ تمّ فصل العظم لاحقاً من "مركز الأبحاث الفلسطيني" على الرغم من كونه أحد مؤسّسيه، ومنعه من الكتابة في مجلة "شؤون فلسطينية" التي يصدرها المركز بأمر مباشر من قيادة المنظمة، ليروي العظم في ما بعد أنه كتب فيها باسم مستعار باتفاق مع رئيس تحريرها ومدير المركز أنيس صايغ.
تحوّلات نهاية التسعينيات
سيعود المفكر السوري بعد ذلك، في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، وفي مقابلة مع مجلة فلسطينية (مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 32، خريف 1997)، إلى وصف حلّ الدولة الواحدة، بالحل الأمثل للقضية الفلسطينية، معتبراً خيار الدولة الفلسطينية المستقلة أمراً مستبعداً في تلك الفترة، نظراً للمتغيّرات الدولية التي عصفت بالمنطقة كلّها، إبان تتالي توقيع اتفاقيات السلام بين البلدان العربية و"إسرائيل"، معارضاً نفسه ومنهجيته النقدية الشديدة السابقة إزاء كل الذين تساهلوا في التعامل مع مآلات القضية الفلسطينية، وخصوصاً في ما يتعلّق بجزئية الحلّ النهائي.
بدا أن شيئاً اختلف في تحليل ومقاربات المفكر الثوري الماركسي وصاحب كتب "زيارة السادات وبؤس السلام العادل" و"الصهيونية والصراع الطبقي". ظهوره في أكثر من مناسبة في الولايات المتحدة لنقاش قضايا التحوّلات الديمقراطية في "الشرق الأوسط" بدت تعزيزاً لمؤشّر على تغيّر طرأ على مواقف العظم الفكرية والسياسيّة، والتي دأب سابقاً على إدانة كثيرين من البوابة ذاتها.