ستيفن سودربيرغ... اختباراتٌ متناقضة وهواجس عديدة

14 يوليو 2016
سودربيرغ بعد نجاح فيلم خلف الأضواء 2013(Getty)
+ الخط -
يعود الأميركي ستيفن سودربيرغ (1963) إلى إخراج الأفلام الروائية الطويلة، قريباً. يتوقّف عن ذلك منذ عام 2013. يُعلِن، حينها، أنه "لن" يقف وراء الكاميرا، مجدّداً. في العام نفسه، يُحقِّق فيلماً تلفزيونياً لحساب محطة التلفزة الأميركية HBO، بعنوان "خلف الأضواء"، يروي فيه حكاية العلاقة المتينة (5 أعوام) بين عازف البيانو الأميركي ليبيراس (1919 ـ 1987)، والشاب سكوت ثورسون، رغم فرق العمر، والأصول الاجتماعية المتناقضة، بينهما.
بعد 3 أعوام، يبدأ سودربيرغ التحضير لإخراج فيلم جديد، بعنوان "لوغان المحظوظ"، ينتمي إلى "الكوميديا السوداء"، مع أن موضوعه يوحي بمزيج التشويق والجريمة والمغامرة: شقيقان يُحضّران عملية سرقة وقتل كبيرة، أثناء سباق سيارات. لكن، مع مخرج مثله، يدخل الفيلم في ثنايا مسائل وحالات وعوالم مبطّنة، تتكشّف، تدريجياً، أثناء السياق الحكائيّ للحبكة الأساسية.
منذ أيام قليلة، يُذكر أن لديه مشروعاً سينمائياً جديداً، يتولّى إنتاجه، مع "احتمال" أن يكون مخرجه، أيضاً. جديده مبنيٌّ على الفضيحة الدولية، المعروفة باسم "وثائق بنما" (11 مليوناً ونصف مليون وثيقة)، التي تظهر إلى العلن، في 3 أبريل/ نيسان 2015، بفضل جهود جبّارة وسرّية لمئات الصحافيين الاستقصائيين، العاملين في مؤسّسات صحافية وإعلامية دولية مختلفة، تكشف تهريباً للأموال بهدف التنصّل من دفع الضرائب، أو لـ "تبييض أموالٍ" أخرى في أعمال غير شرعية، عبر "شركات وهمية"، لمئات العاملين في السياسة والاقتصاد والرياضة والتجارة المتنوّعة الأشكال والأصناف، وموظّفين كبار في مؤسّسات رسمية ومصارف، كما بالتجارة الدولية، بالإضافة إلى حزبيين ومُصنَّفين "إرهابيين دوليين"، وتجّار مخدّرات وأسلحة، وغيرها. كما أنها تضمّ أسماء سينمائيين، أبرزهم الإسباني بدرو ألمودوفار وجاكي شان (هونغ كونغ).
هنا أيضاً، يُتوقَّع أن يكون الفيلم، عند إنجازه، غير مكتفٍ بالمشهد الأساسي. فالكلام المتداول عن المشروع يفيد أن سودربيرغ يعتمد على كتابٍ، يصدر قريباً، لجايك بورنشتاين، الصحافي الفائز بجائزة "بوليتزر"، وأحد الاستقصائيين ومحلّلي "وثائق بنما"، والمشاركين في نشرها. يحمل الكتاب عنوان "العالم السرّي". هذا كفيلٌ باعتبار المشروع السينمائيّ جزءاً من الهاجس البصري والفكري والإنسانيّ لسودربيرغ، في بحثه الحثيث وشبه الدائم، عبر أفلامٍ عديدة له، في الخفايا كلّها، الكامنة في الروح والجسد، كما في السياسة والاقتصاد والحياة اليومية. كتابٌ يتضمّن تفاصيل المهمّة، ويكشف معلومات جديدة تتعلّق بنشاطات غير شرعية لمصارف كبيرة في العالم، ولسياسيين إضافيين، مسلِّطاً الضوء على تحقيقات الصحافيين وآليات عملهم.


يعود ستيفن سودربيرغ إلى واجهة المشهد السينمائي الدولي، بفيلمين مختلفين تماماً، أحدهما عن الآخر. اختلافٌ يعكس طبيعة مساره المهني، إذ تكشف لائحة أفلامه، التي يبدأ تحقيقها عام 1985 بفيلمين وثائقيين، طويل وقصير، تنوّعاً واضحاً في المناخ والأسلوب الدراميين، والفضاءات الإنسانية التي يتناول مواضيعها المختلفة بأشكال، تتراوح بين سوداوية الواقع الإنساني والحياتي للفرد ومحيطه، والكوميديا المستخدمة في سرد حكايات السرقة والمغامرات والتشويق العاديّ، متعاوناً، في النمطين، مع نجوم هوليووديين، تُشبه السيرة المهنية لبعضهم سيرته "المتناقضة" تلك، كجورج كلوني وبراد بيت ومات دايمون.


السينمائيّ الحاصل على "السعفة الذهبية" في الدورة الـ 42 (11 ـ 23 مايو/ أيار 1989) لمهرجان "كان"، عن أول روائيّ طويل له، بعنوان "جنس، أكاذيب وأشرطة فيديو" (ينال جيمس سبايدر جائزة أفضل ممثل، عن دوره فيه)، ينتقل بين مواقع كثيرة في المضامين، كأن يخرج من عالم الانهيار الذاتي والارتباك الروحي، إلى السيرة الحياتية، المصوغة بلغة تتحرّر، كلّياً، من مفرداتها التقليدية، كي تغوص في أعماق الذات الخاصّة بالشخصية المختارة، راوياً مسارها التاريخي، لكن من دون التزامٍ بتسلسل تاريخي كلاسيكيّ، كما في "كافكا" (1991) و"ايرين بروكوفيتش" (2000) و"تشي"، بجزئيه الإثنين (2008).

يُذكر أن سودربيرغ هو ثاني أصغر سينمائيّ في العالم ينال "السعفة الذهبية"، بعد الفرنسي لوي مال (1932 ـ 1995)، الذي يحصل عليها عام 1956، عن الوثائقي "عالم الصمت"، الذي يُنجزه مع البحّار الفرنسي المعروف جاك ـ إيف كوستو (1910 ـ 1997)، وكان عمره 24 عاماً فقط. بينما ينالها الأميركي عام 1989، وهو في الـ 26 من عمره.
شدّة الاختلاف في الأنماط المختارة، تدفع إلى حيرة التصنيف، إذْ ربما ينفضّ ستيفن سودربيرغ نفسه عن كلّ تصنيف معتمد في النقد والتأريخ السينمائيين. يذهب إلى طقوس الروسيّ أندره تاركوفسكي (1932 ـ 1986)، فيُعيد تحقيق "سولاريس" (1972)، عام 2002. ثم يعود إلى أجواء الحرب الباردة، فيُنجز "الألمانيّ الطيّب" (2006)، كي يكشف النفاق والزيف والكذب والخداع، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، مُعتبراً أن أموراً كهذه حاضرةٌ في الأوقات كلّها، و"أننا سنعاينها إلى نهاية الأزمنة"، كما يقول. "يتسلّى"، سينمائياً، بكوميديا مشوّقة، في ثلاثية "أوشن" (2001، و2004، و2007)، لكنه يتوغّل في عالم التحقيقات الأمنية، في "المخبر" (2009)، كي يفضح فساد شركة أميركية عملاقة، مختصّة بالصناعات الزراعية، وكيفية جمعها مئات ملايين الدولارات الأميركية، بطرق غير شرعية.


لائحة أعماله، السينمائية والتلفزيونية، الموزّعة أيضاً على الإنتاج والكتابة، طويلة، ما يستدعي كلاماً كثيراً عن عمق تنوّعها وتناقضات أساليبها الفنية. لكن عودته إلى الإخراج، بعد "آثار جانبية" و"خلف الأضواء" (2013)، دعوةٌ إلى قليلٍ من التأمّل في بعض ماضيه السينمائيّ، عبر الاختلاف الجذري في الموضوعين الجديدين. فالتشويق، المعقود على شيء من الكوميديا السوداء، سمةٌ يُتقن سودربيرغ منحها لغة بصرية متينة الصُنعة، وإنْ تبقى عادية في نمطها، أحياناً. والتشويق الذي يخترق الجدران كي يفضح المخبّأ ويُظهر المخفيّ، مشاركة نقدية، بلغة السينما، في مقاربة أحوال أميركا والعالم، في أزمنة التبدّلات الخطرة، والانقلابات العميقة والسلبية في حيوات الناس والمجتمعات المقيمين فيها.
المساهمون