سباراتوري وحكايات "الحَرّاقة": "مُعذَّبو الأرض"

07 يونيو 2019
"أولئك من تبقّى": البحث عن غائبين (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
"أولئك من تبقى"، عبارة تكمن في متنها توْرِية، أو إشارة ضمنية إلى آخرين غابوا أو ذهبوا من دون رجعة، فيما بقي "أولئك" التونسيون، كما تُشير إليهم الإيطالية أستر سباراتوري (1973)، في وثائقيّها "أولئك من تبقّى" (2019)، التي تنقل عيشهم المرّ في فراغٍ لا يُمْلأ. تذهب إلى أُم الخير، المرأة التي فَقَدت زوجها ولم تعرف ما جرى له منذ ركوبه البحر بحثًا عن حياة أخرى، "أحسن" من تلك التي يعيشها في بلده. اختيارها لها كشخصية محورية ناتجٌ من فرض أم الخير نفسها على المخرجة. فالراغبون في تقصّي ما وصل إليه مسار البحث عن المهاجرين، المفقودين بين مياه البحر الأبيض المتوسّط وسواحل أوروبا، ربما لن يجدوا أفضل منها لتمثيل أحوال الناشدين معرفة مصائر مَنْ غابت أجسادهم، كما أخبارهم، في سديمٍ غامضٍ. 

تترك أستر سباراتوري كاميرتها تسجّل، من دون مرجعية نصّ مُلْزِم لها، يوميات امرأة ناشطة، موزّعة بين بحثٍ مضنٍ عن زوجها، الغامضة نهايته، ومسايرة الحياة والتوافق مع شروطها. تَوزّعٌ مُتعِب، ترصده كاميرا تتحرّر من رقيب المُصوِّر والمُخرِج، وتلتقط جزئيات العيش في بلدٍ هجره رجاله، بعد يأسٍ من "ثورة" خائبة.

حرية الكاميرا في التقاط اليوميّ، وأحيانًا ترك بعض الزائد من تفاصيله مُثبّتًا في الفيلم، مردّه ليس عفوية مُصطنعة، وإنْ يبدو هكذا، بل خيارًا وأسلوب سرد، مبنيّين على معرفة جيّدة بالمادة المُراد معالجتها سينمائيًا.

تأتي الإيطالية أستر سباراتوري إلى الجهة العربية من المتوسّط، بعد اشتغالها مع ستيفانو سافونا (1969)، في وثائقيّه "تحرير: ساحة التحرير" (2011). لها وثائقيّ طويل بعنوان "ماري ماغنوم" (2014)، ترصد فيه تأثير الموجات البشرية التي تصل إلى جزيرة "لامبادوزا" (صقلية) على الانتخابات المحلية. تستوعب ما تريد البحث عنه وفيه، ثم تترك لكاميرتها الحسّاسة حرية اختيار والتقاط الزاوية المناسبة لكلّ لقطة تقترح تثبيتها.

حرية مدروسة، يُعاد معها طرح سؤال أثير، مع ظهور موجة أفلام الربيع العربي: ما هو سبب تميُّز الاشتغال "الأجنبي" عن "المحلي" بالجودة والعمق والتمسّك بالجماليات في الغالب الأعمّ، مع أنّ الموضوع المُعالَج وجغرافيته عربيان بامتياز؟ الإيطالية تشبه غيرها من الأوروبيين القادمين إلينا، الذين يعكسون ـ بعد مكوثٍ قصير في بلادنا ـ صورتنا على الشاشة. في أفلامٍ كثيرة، يرى العربيّ صورته، تمامًا كما سيرى التونسيّ نفسه قبل غيره في "أولئك من تبقّى".
في مارس/ آذار 2011، وصل زوج أم الخير، ومعه عشرات التونسيين "الحرّاقة"، إلى ساحل "لامبادوزا". يظهر على اليابسة، أو ربما يظهر من يُشبهه، في آخر صورة ملتَقَطة له بكاميرا هاتف ذكي، يُرجِّح باحثون عنهم أنها مُلتَقَطة في لحظة بهجة نادرة، لم يشأ أحد ركّاب البحر أن يدعها تَمرّ من دون توثيق. هذه روايتهم، وسندها تلك "الحقيقة الديجيتالية". عليها، تُبنى آمال عظيمة، ما يُشجعّ الباقين في الطرف موجوع الروح على التواصل مع سفارات ومؤسّسات تونسية، مُطالبينها بالتحرّك لمعرفة حقيقة ما جرى للمختفية آثارهم، بعد وصولهم أحياء إلى إيطاليا.



صُوَر وبقايا تسجيلات صوتية متقطّعة تغدو، في بلدٍ لم يتحرّر من قناعاته الغيبية بعد، موضع تنازع قوي بين مَنْ يريد تصديق رواية الأمل، ومن لا يرى أكثر من أَضْغاث أحلام لا تُغيِّر من حقيقة غرق الرجال وموتهم وسط بحر لطالما ناشدوه أن يكون عونًا لهم ووسيلة خلاصٍ من شظفِ عيشٍ ويأسٍ متجذّرين.

بين الطرفين المتناقضين، هناك طرف ثالث غامض، يلتزم الصمت، لرغبة في عدم توريط نفسه بالظهور العلني في المشهد التراجيدي. لكن وثائقي سباراتوري لم يُقابله ولم يُعاين ردود فعله إزاء ما يسمعه من أصوات ملتاعة، تُطالبه بالكشف عما يعرفه عن المغيّبين، وعما يخفيه من معلومات ربما تُعينهم، وتريح أرواحهم القلقة. الطرف الإيطالي الرسمي طال صمته دهرًا، أعانه عليه تجاهل ساسة تونسيين وقلّة حمية مؤسّسات لم تطلب الكشف عن مصير مواطنيها الواصلين إلى بلد ذاك الطرف، أو المنتهية رحلاتهم في مياه عائدة له. هل ثمة تواطؤ؟ سؤال يرد كثيرًا في طيات تحرّكات الباحثين عن "الغائبين". الإشارة الصريحة إلى ذلك الطرف تبقيها أستر سباراتوري إلى اللحظة الأخيرة لفيلمها، فما يُشغلها هو رصد حياة باقين في تونس، دائمي التألّم لضياع رجال يُغامرون بأرواحهم لتأمين حياة سوية لهم.

امتنانًا لتضحياتهم، وخشيةً من نسيانهم وطيّ صفحات غيابهم، تتحرّك نسوة تونسيات من دون كلل، ومعهنّ بعض الرجال. مجموعات منتظِمة في جمعيات مدنيّة، تستمرّ في ملاحقة كلّ من يوصلها إلى الحقيقة. في مسار البحث، تلتقط الكاميرا إشارات تطرح أسئلة عن واقع تونسي يُغلَّف كثيرًا بأوهامٍ وأكاذيب. فالمرأة التونسية، التي يُنظر إليها بعين غربية لا تطاولها الشكوك في انحيازها الأنثوي، تتمتّع بحرية حركة، لكنها محاصرة بتعاطف وتآزر قليلين. حالها لا استثناء فيه. هي تشبه بقية مأزومة، قلِقة وتُعاني من مشاكل اقتصادية، ونذالات ساسة يتاجرون بما لا يملكون. المرأة التونسية مخلصة لقناعتها، ومدفوعة بإخلاصها. المساحة التي تتحرّك فيها ضيّقة. ما تركه الرجال خلفهم يُثقل كاهلها. أُم الخير مثلٌ مُثَبّت في فيلمٍ سينمائي يُعرّي. فجأة، تجد نفسها وحيدة، وعليها إعالة أطفالها، من دون تعاطف الطرف العائلي من جهة زوجها. تُحمَّل بمسؤوليات عن ذنب لم ترتكبه، وهؤلاء الذين يحمّلونها المسؤولية يتناسون أن قرار الهجرة وركوب البحر لا يتّخذه مُنْعَمُون. الأحوال البائسة للبلد وإفرازات السياسة اللعوبة تدفع الرجال إلى اتّخاذ قرار الهجرة، لكن قوّة الأمل تشدّهم أكثر إلى ركوب البحر في قوارب مهترئة.

تلتقط كاميرا أستر سباراتوري مشهدًا يكثّف قوّة الأمل تلك، يظهر فيه أطفال يلعبون قرب الساحل لعبة يحاكون فيها مسرحيًا وصول مجموعة من "الحرّاقة" بسلام إلى شواطئ "لامبادوزا". فهل يُجرّب هؤلاء أيضًا، وبعد أعوام، ركوب البحر إلى الجهة الثانية؟

قلّة التضامن وضعف الشعور الجمعي بأوجاع الآخر ملتَقَطة بسهولة. الموظّفون الحكوميون يعبّرون عنها، حتى ممثّلو المنظّمات المدنية. قسمٌ غير قليل منهم يتلاعب على الأطراف في بلدٍ يعيش حالة انعدام توازن حادّة.

في مشهدٍ يُظهر نساءً مُحتجات وهن يوقفن سير المركبات على أحد الجسور، أملاً في تنبيه الناس والعالم إلى مطالبهنّ، تتجلّى أنانية فردية وذكورية تتناقض وحرية نسوية يُتباهى بها. فالعابرون جميعهم يريدون المرور، ولا يهمّهم فكّ اعتصام عادل، أو كسره.

إحساس الباحث عن الغائب موجع. عوامل إحباطه كثيرة، عليه تجاوزها بقلَّة ما يملك. مُطالبة السلطة السياسية بتحمّل مسؤولياتها من أشدّ ما يواجهه تعقيدًا في ظلّ وضع تونسي مضطرب، يلتقطه الطرف الخفيّ ويستثمره لصالحه.

في الثواني الأخيرة من "أولئك من تبقّى" (89 دقيقة)، يظهر موظّف أوروبي أنيق، وهو يتّجه إلى مبنى حكومي حاملاً بإحدى يديه ملفّات. الإشارة واضحة: يتحوّل الحالمون بمستقبلٍ أفضل، وبدء حياة جديدة في مكانٍ آخر، إلى إرقام مُثبّتة على أوراق، ومحفوظة في ملفات سرية، جميلة الألوان.
المساهمون