سان دوني.. ضاحية باريس الوادعة

31 اغسطس 2014
"ضاحية سان دوني غيّرت حكمي المسبق" (culture group/Getty )
+ الخط -
منذ أسبوع فقط، في ساحة سان كاترين في بروكسل، اخترنا أثناء تجوالنا مقهى تظلل الأشجار أرضيته الترابية. رحنا نشرب البيرة البلجيكية، التي شرحت لنا الصبية الشقراء أصولها وسبب تسميتها. قلت لجواكيم آنذاك: خسارة، في باريس، لا نجد مقاهيَ من هذا النوع، حيث الشجر والمساحات الواسعة وسط الطريق.

باريس مدينة مزدحمة ومستعجلة، طاولات المقاهي متراصة ومتلاصقة، تكاد أكتاف الزبائن ترتطم ببعضها بعضاً، خصوصاً على طاولات الرصيف. لكنني حين ذهبت للقاء صديقي القادم من سورية، منذ أسابيع قليلة، أحسست بارتياح مباغت، ونحن نجلس في تلك الساحة المماثلة لما رأيته في بروكسل، مقهى تظلله الأشجار، تنتشر الطاولات على أرضية ترابية، في منطقة لا تتمتع غالباً بسمعة حسنة، حيث ضواحي باريس ذات الحكايات الباعثة على الحذر والابتعاد.

في سان دوني، وفي الساحة المجاورة لمحطة مترو البازيليك ( الكاتدرائية)، التقيت صديقي. قال لي: كأننا قاعدون في حديقة بيتنا. حتى أن النادلة السمراء المبتسمة باسترخاء لذيذ، أدهشتني وهي تتحرك بطريقة لا تتعلق بتلك السرعة، التي تحكم نادلي باريس، حاملين "صينياتهم" الدائرية صوب الأعلى، حتى لا ترتطم برؤوس الزبائن، وكأنهم يمسكون بمقبض سيارة.

أحضرت النادلة الماء الغازي الممزوج بالنعنع المكثّف المحلّى، مع قطع ثلج تطفئ ظمأ الظهيرة، بينما كان المشهد حولي لا يشبه باريس.في سان دونيس إذن، انقلبت معرفتي عن الضواحي ذات السمعة السيئة. في هذه الضواحي المُلحقة بباريس، يسكن الفقراء والأجانب على وجه الخصوص، المهاجرون الذين لديهم دائماً حجم هائل من الهموم والمشاكل والاحتجاجات، لتبدو هذه المناطق في حالة احتدام ونار تتحرك ببطء من تحت الرماد، مستعدة للتوقد في كل لحظة.

في الضواحي عادة، نسمع أخبار الحرائق والسرقات والشجارات، يعيش الشباب هنا بكثير من الشرّ المبطّن، ينظرون إلى الحياة بتوثّب دائم، مستعدين للانقضاض على أي عابر سبيل، ما أن يحرّك قليلاً بعض الهواء عن الجمر الراقد تحت الرماد، فتلتهب النار. اعتقدت أن عليّ احتضان حقيبة يدي بشدّة، ودسّ هاتفي المحمول في جيبي، والانتباه إلى نفسي، فأنا في ضواحي الخطر.

لم أكن أتوقع ذلك الجمال، الذي أجهله هناك في سان دوني، حيث الهدوء والحميمية وصخب أطفال وعائلات تتناول الطعام على مقاعد الساحة، وعشّاق يحتسون البيرة. مشهدية لا تشبه باريس الفاترة المتباهية بجمالها، المتعالية على ضواحيها البسيطة. سان دوني الملوّنة، كما سرد لي صديقي عن المقهى الذي جلسنا فيه قائلاً: "البارحة تناولت غدائي هنا، جاءت سيدة سوداء، استقبلها صاحب المقهى فاتحاً ذراعيه واحتضنها، جلست السيدة على طاولة اختارتها، بعدها بقليل، وصلت سيدة يابانية، وحدث الأمر نفسه، احتضنها صاحب المقهى، ثم جاءت سيدة عربية وهكذا...، إن هذا المقهى صورة مصغرة عن هذا الحي، مثال للتعايش بين الأعراق والثقافات".

غمرني إحساس عميق بالرضا، أن أجد هذه الساحة الفاتنة، هذه المقاهي البسيطة، هؤلاء البشر الطيبين المبتسمين.. على بعد عشر محطات من حارتي، في الضفة المقابلة لضاحيتي، حيث تطل الضاحيتان على الطرف الشمالي من نهر السين. في طريق العودة، مشيت بين محطة الكاتدرائية صوب "بورت دو باريس"، مررت في الشارع الموازي لبيت إيلوار، رأيت قبة البيت، وقررت زيارته قريباً، حيث ولد بول إيلوار هنا، وحيث ثمة شارع ومدرسة يحملان اسمه.

أحسست بروح بول إيلوار تتقافز حولي، حيث تابعنا حديثنا، صديقي الشاعر وأنا، مسترسلين عن إيلوار وأصحابه السرياليين، وكأنهم يعرفون أن الأجانب في سان دوني، سيملأون الحدائق والساحات بالألوان وصراخ الأطفال وأحلام الشعراء.
دلالات
المساهمون