يعد البحث في قضايا الحركات الإسلامية من أهم الشواغل في هذه المرحلة التاريخية التي برزت فيها القوى الإسلامية فاعلاً أساسياً في الحياة السياسية، خاصة إثر الربيع العربي.
ورغم اختلافات هذه القوى شكلاً ومضموناً، خصوصاً على مستوى الأداء السياسي والقدرة على التفاعل مع المتغيرات، إلا أنها تتشابه وتلتقي في نقاط ومسائل عدة، أهمها التاريخ وعلاقتها المتوترة بالدولة.
لقد تأسست هذه الحركات في بداياتها رداً على أسئلة ملحة، منها سؤال الهوية والحريات السياسية، وقدمت سنوات طويلة من النضال والكفاح من أجل الإجابة عن هذه الأسئلة. "تعلقت الدوافع الأولية للقوى الإسلامية السياسية بالحفاظ على الهوية الإسلامية في مواجهة حركة تحديث داخلي اتخذت من القيم والمفاهيم الغربية نموذجا لها. كما جاءت ولادة هذه القوى على خلفية من انهيار الإجماع الداخلي والتراجع الحثيث في قوة وتأثير مؤسسة العلماء التقليدية .."، (بشير موسى نافع، من كتاب الإسلاميون)
يقول زعيم حركة النهضة، راشد الغنوشي، في مقدمة كتابه الحريات العامة في الدولة الإسلامية "ولأن المعركة، كما ذكرناها، في عمقها سياسية بين الاتجاهات الوطنية والتسلط الدولي على ثوابت أمتنا واستقلالها ومواردها، ويمثل الإسلام وثقافته العربية درع المقاومة ووقودها، فإن استمرار الكفاح على كل الواجهات وخاصة المواجهة الفكرية؛ وهي كاسحة الألغام ومشاعل الإضاءة، ضرورة قاهرة. لا يصرف عنها بل يؤكدها توالي المحن واحتداد الصراع ضد مشاريع الهيمنة الدولية والصهيونية وحلفائها المحليين وتصاعد أرواح آلاف الشهداء، واعتقال عشرات الآلاف من أنصار الإسلام والحرية على امتداد وطن العروبة والإسلام في وطننا، وهم يدفعون ضريبة دفاعهم عن الإسلام والحرية والديمقراطية ومقاومة الاستبداد، وإصرارهم على مواصلة حركة التحرر الوطني لإنجاز استقلالنا الثقافي والاقتصادي في مواجهة خطوط العولمة والدمج".
إن حركة النهضة التونسية هي إحدى هذه الحركات الإسلامية في العالم العربي، التي خاضت عبر تاريخها معركة شرسة مع السلطة، انتهت بها إلى السجون والمنافي، ومع ذلك استطاعت في أول فرصة حقيقية بعد الثورة أن تقتحم أبواب الدولة وتخوض في أمر الحكم نسبياً، بقدر صعوبات المراحل الانتقالية بعد تاريخ من الفساد والاستبداد.
وتبقى تجربة المعارضة في حاجة للقراءة التاريخية بمنهج تحليلي تفكيكي يستنبط منها نقاط القوة ونقاط الضعف، والأسباب الدقيقة التي أدت إلى تصارع أهم التيارات السياسية في البلاد مع أجهزة الدولة.
كما أن تجربة الحكم التي تتواصل إلى الآن، يمكن النظر والحكم عليها من بعض الزوايا دون أخرى بسبب العوائق المنهجية، إذ إن التجربة لا تزال في طور الحدوث، وعوائق ابستيمولوجية بسبب شح المعطيات وغياب القراءة النهضوية الدقيقة لتجربة الانتقال الديمقراطي.
حزب حركة النهضة من السرية إلى العلنية ومن السجون والمنافي إلى الدولة ومن المعارضة إلى الحكم ومن رفع الشعارات إلى تحديات الفعل السياسي ومتطلبات البرمجة والتخطيط السياسي والاقتصادي والأمني والاجتماعي.
ليس من السهل أن يعيش أي جسم سياسي أو تنظيمي مثل هذه النقلة النوعية بجميع تناقضاتها وصعوباتها التي بإمكانها أن تودي بكل أرصدة الماضي وآمال المستقبل، خصوصاً وقد قررت خوض تجربة صعبة من دون الاستعداد اللازم والمطلوب لها على جميع الأصعدة والمستويات؛ تنظيمياً، وسياسياً، وفكرياً، ومضمونياً، ودبلوماسياً.
وقد تجلت تناقضات التحول النهضوي، المفاجئ، في معاركها السياسية أثناء تجربة الانتقال الديمقراطي سواء على مستوى الخطاب والصورة أو على مستوى الارتجال السياسي.
إن الانتقال من معركة الدفاع عن الهوية والحرية إلى معارك الاقتصاد والتنمية والعدالة السياسية والاجتماعية يتطلب جهدا ضخما، فكريا وماديا بالتوازي مع مقتضيات التكيف النفسي والذهني والهيكلي الذي يتطلبه هذا الجسم الفاعل، وهو فعلا ما أرهق حزب حركة النهضة.
لقد لعب موقع النهضة من السلطة تاريخيا دورا كبيرا في تحديد ملامح المشروع النهضوي، خاصة في بعده السياسي الذي تحول إلى مشروع نضالي حقوقي أعلاه تحقيق الحريات وأدناه تكريس التعددية الحزبية ، وحضرت في ذلك كل آليات المعارضة والرفض وغابت رؤى المناورة السياسية والتكتيك.
إن أسوأ ما يمكن أن يتعرض له حزب ما، هو أن يتحول إلى تنظيم سري ملاحق، حيث تتغير كل ميكانيزمات تفكيره وعمله بنسبة 180 درجة، خاصة من الناحية التنظيمية والعلائقية (علاقته بأبنائه، علاقته بالمجتمع، علاقته بالدولة ..)، والأسوأ من ذلك هو صعوبة العودة إلى منطق الممارسة العلنية المشروعة بعد ذلك، لأن المنطق الإنساني البشري الخاضع للسيكولوجيا والمزاج مختلف تماما عن منطق المكننة الخاضع لقوانين شبه محددة.
كما أن تجميع المناضلين حول فكرة المعارضة والمقاومة لا يفترض دائما أكثر من وجود عدو مشترك يساهم في توحيد خصومه ولملمة صفوفهم حول مبدأ عام أو فكرة مختصرة، رغم الاختلافات التي يمكن أن تكون بينهم، ولو في التفاصيل وترتيب الأولويات وأشكال تنزيل المشروع التي غالبا ما تطفوا على السطح في مراحل البناء وصياغة البرامج.
(تونس)
اقرأ أيضاً: أزمة نداء تونس: حرب أيديولوجيا أم صراع مصالح؟