سأحتكِم للمرآة حتى يظهر البُطلان

17 ديسمبر 2019
(مقطع من لوحة "بعد الغروب" للفنان العراقي ضياء العزاوي)
+ الخط -

كانت رُقَيّة تقطع البحر يميناً وشمالاً
شَقَّقَ ملحُ البحر وقِطعُ الزجاج المكسور
قَدَميها الحافيتين
جِيئةً وذهاباً تَقطَع الغادِر
كَأنّها تمشي على جَمرِ فُرْنٍ
ثُمَّ تُشيحُ وَجهَها صوب
عائشة البَحرِية سَيِدة الماء
وتنتظر لَعلَّ لُجّةَ البحر
ترميه.

■ ■ ■

في حُزيران نيوأورلينز
تلفح الشَّمس، يَنْتَفِخُ الجسد ويتعَرّق
يلتَفّ عليك الصمت كَأَليافِ السُمّار
ويتلوّى على النّوافذ وعلى سَقف البيت
أجلس عند المَغيب
في الرّواق المسقوف لبَيتي
تحطُّ بعض الغربان
في الساحة التي تفصل بيتي
عن مدرسة للأطفال
تَنعَبُ حتى تَهُدَّ جَلَل الصَّمت
النّعيب كأنه سوط يَمشِقُ الظلام
بعضها يخفِق ويحوم كأنّه يرسم دائرة
هل سَتجُرُّني أو واحداً من جيراني
إلى المقبرة المجاورة؟

العصافير
تَحُطّ على أسلاك كهربائية
تَحُطُّ رؤوسها على أكتافها
وَتَنعَس كَأنَّها في خدر
كان هناك ينتظرني
على مسافة قريبة من الجرح
يَنْدَسُّ في الظِلِّ وَيُقيم
وحين أخطو خُطوَةً
يَتَزاوَرُ عَنِّي فَينكَسر
توجّست منه لحظةً
وفتحت الباب له
فوجدته سبقني إلى الأريكة

ما اسمك أيها الغريب؟
بوشعيب لَمزَابي
لن يُزهر هذا الاسم هنا
مهما نَثرت بذورك
سَتجِفُّ كساقِ سُنبلة وتَنحَني
سَينفَصِلُ عنك أو تَنشَقُّ عنه
قبل أن يسألني عن اسمي
أجبته بُوبْ
أنا البهلوان
سَليل ذُرِّية المهزومين العرب
سَليلُ الحَرْفِ الخاسر
المُدن الخاسرة
أنا الواحِدُ استَتَر في الآخر
سقط الضوء عَلَيه فانكَمَش
الاسم القديم ناعِسٌ كَغزالة
في سَجّاد إيراني
والثاني يعيش كمقامر،
المُرور يفترض أن تعيش كمقامر
المقامِرُ يَختار أرقاماً
يعيش مُترَفاً لِثوانٍ
قَبل أن يَسقُطَ العدد
فيختار أرقاماً أخرى
وهكذا أسقَطتُ حروفاً
واحتفظت بأخرى
أدخَلتُ الحُروف
في لُعبة الرِّبحِ والخسارة
قال إن حَرْفَك العَربيّ في كتابِك مُكتَمِلٌ
وَليس في كُتبٍ أخرى
قلت أصبح لِحَرفي بُدَلاء
الحَرف كُرةٌ في يَدِ بهلوان يراقِصُهُ
البهلوان يُذهلنا جميعاً
يُدغدغ أعصابنا
تَرتفع الكُرات كأنها شَلّالُ ماء
تهبط الواحدة تِلو الأخرى
هل سَيُسقِطُ الكُرات دُفعَةً واحدة
أم أنَّ واحدة سَتَنزَلِق من راحَتِه
فَيُطْلِقُ المتفرجون
عليه كلاباً تُرابِطُ
حيث يجلسون فينهشونه

أعرِف أَنَّك تستغفِلُني
لا أسمع ما تقول
الصّوت يَترَدَّدُ ويرجِع إليك
سَأحتَكِم للمرآة حتى يظهر البُطلان
وسمعت لحناً شعبياً
اليدان تمَدّدتا إلى الأمام
انْحنى ظهره قليلاً
وأخذَ يُلَوِّح برأسه كالمجذوب
وأحيانا أخرى يتركه يتدلّى
كأنّه غير مشدود إلى رَقبته
يتوقف هُنيهةً
يركز الأرض بقدميه
ألصق ظهر كَفِّه اليسرى بِجبّته
ورَدَّ يده اليمنى إلى الخلف
فَرجعتْ بنفس السرعة
كأنها بندول ساعة
إطارها تنَورة دَرويش
في رقصَته الأخيرة
وفي رقصته عانقت ما مات
فِيّ.


* شاعر وأكاديمي مغربي مقيم في مدينة نيو أورلينز الأميركية

المساهمون