زوجة نكديّة

29 أكتوبر 2016
هذا الشيء الذي يربطنا بلبنان مبهم (أنور عمرو/فرانس برس)
+ الخط -
هل تشعر بها في داخلك؟ يُفترض أنّها ثابتة هناك، لا تهزّها دورة دمويّة ولا خلايا. ثابتة كولادة وموت. تولد معك وتموت معك. عبءٌ هي؟ لا نعرف. لا ثقيلة ولا خفيفة. لها سلطة عليك. سلطة رمزية تروح وتجيء. شرحُها صعب ونكرانها صعب وعشقها صعب.

قدر أم مصاب؟ حياة أم موت؟ فرحة أم فخر أم تعاسة. ماذا تكون؟ الجيل الخمسيني يرى نفسه أكثر تمسّكاً بالوطن. فإن غادره هؤلاء، لن يبقى من بعدهم. ليس في ذلك غروراً من قبلهم، بل إدراكاً منهم لحالة اليأس التي أصابت شباباً كثيرين. ولو أرادوا التخلّي عن بلدهم، هل نقول إنّهم ليسوا وطنيّين؟

يؤمن البعض بأنفسهم، في لبنان. ولا بدّ لأحداثٍ أو أفكار تتوالى أن تنتج شيئاً في النهاية. ماذا يربط هؤلاء بلبنان؟ عبارات مثل لبنان الجنّة والطبيعة التي خسرت جزءاً كبيراً من ميّزاتها بفعل الاحتباس الحراري، أم شاطئ نقضي أيامنا في المطالبة باسترجاعه - هذا إن كنّا ما زلنا نفعل - بدلاً من الاستمتاع به، أم حياة بسيطة من دون التفكير في ادّخار شبابنا إلى حين شيخوختنا.

القول إنّ لا مساحات عامة في لبنان بات يشبه ما قد يردّده رجل عن زوجته "النكديّة". ولو كان في هذا تمييز جندري، إلّا أنه يحدث يوميّاً في كلّ البيوت، مهما تجاوزت عقول ساكنيها الجندرة. نحلم ببلد آخر، ونقنع أنفسنا بأنّنا قادرون على بناء تفاصيل فيه ومن ثم الانتماء إليه. أليست التفاصيل هي التي تحمي مواطنيّتنا أو انتماءنا؟ يمكننا مثلاً نقل أشخاص نحبّهم أو أشياء اعتدناها معنا. ماذا يربطنا بعد فيه إذاً؟ الذكريات؟ هي نفسها هنا وهناك.

يحفظ الصغار النشيد الوطني في المدارس من دون أن يعرفوا أنّهم ينتمون إلى بلدٍ اسمه لبنان. والآباء والأمّهات، بمعظمهم، يخاطبون أولادهم بالإنكليزية أو الفرنسية، انطلاقاً من أنّ اللغة ضمانة للمستقبل. ما حاجتهم إلى العربية؟ ثم إنّهم سوف يكتسبونها من "الأنتوراج"، أي المحيط.

ويفتخر رجل برفضه الهجرة إلى كندا قبل سنوات. اختار لبنان بدلاً من بلدٍ يستأهل أن يكون جنّة لاحترامه الإنسان. والمرأة التي أنجبت أطفالها الثلاثة في الولايات المتّحدة الأميركيّة وعانت كثيراً، اختارت في النهاية العودة إلى لبنان رغم كل الظروف الصعبة. "الغربة صعبة" ليس لأنّها بعيدة عن عائلة وبيئة اعتادتها، بل لأنّها عربيّة ولأنّ هذه البلاد تقطع الأنفاس. لكنّها في النهاية، تشعر بالأمان.

هذا الشيء الذي يربطنا بلبنان مبهم. كأن يحبّ رجل امرأة في خياله. ولأنّه لم يلتق بها بعد، يبقى معلّقاً بها إلى هذه الدرجة. وكلمات مثل تعزيز الانتماء ما هي سوى خوف من نسيان صورة المرأة. كأن ينسى الشبان صور حبيباتهم والشابات صور أحبّائهنّ. "دخل ترابك". عبارة تُضحك الشباب. الأصعب أنّ ترجمتها غير ممكنة. قد يكون الانتماء للغة مستقبلاً في الخارج. أمّا الانتماء للوطن، فمن "الأنتوراج".

دلالات
المساهمون