في الجانب الأوروبي للمتخوّفين من الحماسة الكبيرة لفوز ترامب، يقف صحافيون وكتّاب وسياسيون يقدّمون المشهد كارثياً، معتبرين أن "فوز ترامب سيشكّل بيضة القبان لليمين القومي الغربي في أوروبا". مقابل ذلك، يرتفع كلام عن "الحليف ترامب في الصراع ضد النخبة"، من فرنسا إلى هولندا والمجر وبولندا والنمسا وألمانيا والدول الإسكندنافية، وفي خلفية المشهد ثمة معركة أوروبية أخرى ترتبط أساساً بصراعات داخلية أعمق مما يطفو على السطح.
وربما هذا ما دفع الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، لإجراء محادثات هاتفية أمس الجمعة مع ترامب "لتوضيح وطلب توضيح مواقف"، كما قال هولاند لشبكة التلفزيون الفرنسية "فرانس-2" قبل الاتصال. وأضاف أن "دونالد ترامب انتخب للتو وواجبي هو العمل على أن تكون هناك علاقات، من الأفضل، لكن على أساس الصراحة والوضوح"، مشيراً إلى ملفات مكافحة الإرهاب وأوكرانيا وسورية والعراق. كذلك بحثت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أمس مع ترامب "مواصلة العلاقات الأميركية الألمانية".
كذلك فإن إيطاليا على موعد في الرابع من ديسمبر/كانون الأول المقبل مع استفتاء شعبي حول إصلاحات انتخابية قد تكون نتيجتها السلبية استقالة رئيس الوزراء ماتيو رينزي كما وعد. وفي هولندا، يتنقل اليميني خيرت فيلدرز منذ فجر الأربعاء على قنوات التلفزة للتعبير عن غبطته بما سيحققه من "اكتساح البرلمان في انتخابات مارس/آذار المقبل".
قلق أمني وعسكري وتجاري
في هذه الأجواء، يجتمع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في عشاء غير رسمي مساء غد الأحد في بروكسل من أجل "تبادل وجهات النظر حول كيفية دفع العلاقات بين الاتحاد والولايات المتحدة قدماً، إثر الانتخابات الأميركية"، كما أعلنت وزيرة خارجية الاتحاد، فيديريكا موغيريني، في وقت يتأرجح ويئن فيه الاتحاد الأوروبي من تتالي المآزق، التي يحمّلها البعض لـ"تراخي أميركا باراك أوباما في مسؤوليتها"، وخصوصاً في "أزمة اللاجئين". ويأتي ذلك بعد كلام لأمين حلف شمال الأطلسي السابق، أندرس فوغ راسموسن، اعتبر فيه "ترامب خطراً على الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي".
وتقول مصادر لـ"العربي الجديد"، إن نقاشات الأحد بين الأوروبيين ستدرس الأمر بعنوان "زلزال ترامب". وفي التفاصيل ما يخشاه هؤلاء هو تراجع الإدارة الأميركية الجديدة عن تعهدات سابقة للجم الروس، وآخرها الانتشار والمناورات التي حدثت أخيراً لإخافة روسيا.
لكن كلام البنتاغون ربما يهدئ المخاوف الأوروبية، إذ أعلن المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية بيتر كوك أن تعزيز الوجود العسكري الأميركي في أوروبا مستمر، بمعزل عما يعتزم ترامب فعله حين يتولى مهامه في 20 يناير/كانون الثاني. وقال كوك: "نحن ننفذ الخطط" المتعلقة بتعزيز الوجود الأميركي في أوروبا "بحسب ما وضعناها مع حلفائنا في حلف شمال الأطلسي وذلك بتشاور وثيق معهم". وأضاف: "نترك للإدارة المقبلة مهمة تحديد سياستها" في هذا الشأن. وبحسب البنتاغون فإن الكتيبة القتالية التي قررت واشنطن إرسالها إلى أوروبا لتعزيز الكتيبتين الأميركيتين المنتشرتين هناك أصلا، ستبدأ انتشارها في القارة العجوز بتدريبات عسكرية تجريها في بولندا، تليها وحدات عسكرية أميركية ستنتشر في كل من بلغاريا ورومانيا ودول البلطيق.
كذلك، لا يخفي بعض الأوروبيين قلقهم من عدم حماسة ترامب للاتفاقيات التجارية مع الاتحاد الأوروبي، "التي ربما يجري تجميدها"، وفقاً لما قالته مفوضة التجارة الأوروبية السويدية، سيسيليا مالمستروم، لقناة تلفزيونية سويدية. وفي المجال التجاري أيضاً، يشير بعض الأوروبيين، الذين يحاولون تدفيع بريطانيا ثمن خروجها من الاتحاد الأوروبي، إلى تطمينات ترامب لمساعدة المملكة المتحدة بالتقارب أكثر معها ليكون "الانفصال عن أوروبا قوياً ويتخطى كل المتعارف عليه"، كما جاء في تقرير للصحافية، كارين أكسيلسون، من لندن. فترامب يرى في "بريكسيت أمراً رائعاً"، وهو ما يدفع بعض الخبراء والمراقبين إلى القول إن "الرجل ربما يندفع باتجاه المزيد من تفكيك الاتحاد الأوروبي وحتى حلف شمال الأطلسي".
عودة إلى الجيش الأوروبي
على الرغم من كل المبادرات للرئيس الفرنسي ورئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، وآخرين، لعقد لقاءات مع ترامب لـ"توضيح بعض النقاط"، إلا أن ذلك لن يغني عن ارتفاع منسوب الدعوات الأوروبية لضرورة "توثيق التعاون العسكري الأوروبي بعيداً عن حلف الأطلسي". ويبدو بحسب ما يقول سياسيون في كوبنهاغن مهتمون بلجان الأمن، أن إعادة هذا الطرح ستكون بقوة واندفاع هذه المرة، "فانتقادات ترامب مخيفة بالفعل للقدرات الأوروبية على الحركة، هو يفكر بعقلية التاجر: ادفع وسنحميك، وهذه عقلية مافيا وليست سياسة"، كما يقول مصدر أوروبي لـ"العربي الجديد". لكنه يضيف أن ترامب "سينزل عن الشجرة، ولن يجد في (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين ما اعتقده"، معتبراً أن هناك فرصة كبيرة أمام أوروبا لتتقارب مع العالم العربي، وخصوصاً في الخليج، "لإنزال ترامب عن تلك الشجرة، فهم الأكثر إدراكاً لطبيعة عمل الإدارة الأميركية وليس الأمر متعلقاً بشخص، وخصوصاً مع الجمهوريين".
مقابل ذلك، فإن البروفسور في سياسة وسط أوروبا في جامعة أودنسة الدنماركية، سورن ريسهوي، يرى أنه "قد يكون مفهوماً تشجّع البولنديين وغيرهم في وسط أوروبا لترامب، فمنافسته هيلاري كلينتون كانت تنقد دائماً تراجع الديمقراطية في بلادهم"، مضيفاً كما نقل عنه التلفزيون الدنماركي: "لكن حماية حلف الأطلسي لا غنى عنها، وأظن أن نقاش الأوروبيين يوم الأحد سيوازن بين هذه الأمور، وسيخرج بنتيجة لتقوية علاقات وقرارات الحلف السابقة وبزيادة على ذلك تقوية العلاقات العسكرية بين دول الاتحاد الأوروبي".
مراقبون آخرون، يخشون من تبعات تقارب ترامب وبوتين، يرون أنه "سيجري التعجيل ربما في عملية بناء الجيش الأوروبي الموحد، لتجنّب أية خضات مستقبلية في حلف الأطلسي، وهو ما يمكن أن يكون ضمانة للدول القلقة من وصول ترامب".
وفي هذا السياق، جاء كلام وزيرة الدفاع الألمانية، أورسولا فون دير لاين، التي أملت من مستشاري ترامب أن يقولوا له ما يحتاج أن يعرفه، وهو أن حلف شمال الأطلسي ليس مشروعاً تجارياً ولا شركة. واعتبرت في حوار تلفزيوني، أنه "لا يمكن لترامب القول إن الماضي والقيم المشتركة غير مهمة ويسعى بدلاً من ذلك إلى كسب المال من الحلف بقدر ما يستطيع". ولفتت إلى أن الحلف وقف إلى جانب الولايات المتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001. وأوضحت أن على ترامب الإظهار بوضوح على أي جانب يريد أن يقف، هل هو مع القانون والديمقراطية، أم أنه غير مهتم بذلك ويتطلع إلى صداقة وثيقة مع بوتين؟
خليط من الفاشية والشعوبية
ما يجمع دونالد ترامب بالشعبويين الأوروبيين، وخصوصاً رمزية الرجل الذي سيتحكم بأكبر اقتصاديات العالم، أكبر بكثير من مجرد استلهام فكرة دغدغة مشاعر البيض. وقدّم الكاتب والمحلل السياسي الهولندي، كاس مودي، صورة مبسطة وواضحة للوضع في الأشهر المقبلة. ورأى مودي أن "صدمة انتخاب ترامب هي هدية من السماء لكل اليمينيين حول العالم. فهؤلاء سيتحدثون عن صديقنا في البيت الأبيض".
حتى أن وارسو التي عُقدت فيها قمة حلف شمال الأطلسي، وأرسلت قوات لحمايتها من تهديدات بوتين، خرج وزير خارجيتها فيتولد فاشيكوفسكي فجأة ليعبّر عن سعادته بخطاب ترامب، قائلاً إن "أميركا وبولندا ستستعيدان قيمهما المشتركة". ومن هذا المنطلق، يرى متابعون براعة ترامب في تقسيم التحالفات واللعب على الخوف في الدول التي تشعر بتهديد وجودي.
وعلى الرغم من ذلك، فإن بعض السياسيين الأوروبيين، يرون أن "ترامب لن يستطيع تغيير الخارطة والتقاليد السياسية الأوروبية العريقة في ديمقراطيتها"، كما قال وزير الخارجية الدنماركي الأسبق، أوفه إليمان يانسن، في تعليق صحافي عقّب فيه على صعود اليمين المتشدد.
وينشغل الأوروبيون بعلاقات ترامب باليمين المتشدد، إلى جانب علاقته الشخصية والقوية بزعيم حزب "استقلال بريطانيا" نايجل فراج، وبقية المتشددين القوميين، وسط قلق كبير جداً. ويلاحظ معظم المراقبين الأوروبيين في مجال التحوّل اليميني المتشدد كيف أن "تلك النخب" اليمينية المتطرفة تجمع بين علاقتها بترامب وبوتين في الوقت نفسه، بل إن هؤلاء يرون أن "الرجلين يحاولان موازنة العلاقة بالاتحاد الأوروبي بأحزاب التطرف". وهما يراهنان على تقدّمهما في أية انتخابات مقبلة ويسميان ذلك المعسكر بـ"المعسكر الواقعي". ما يهم بوتين وترامب "صناعة جبهة أعداء مشتركة مع اليمين المتطرف الأوروبي"، وفق المحللين.
تقول المتخصصة في قضايا الشأن الأوروبي في كوبنهاغن، جونا ماركسون، لـ"العربي الجديد": "أياً تكن التبريرات التي يسوقها ساسة الاتحاد، وفي مجملهم هنأوا وبنفاق مستعر ترامب الذي وصفوه قبل أيام بمعتوه، فإن غرب أوروبا يعيش مآزق كبرى، من الخروج البريطاني وتشتت الأوروبيين في تبني سياسة واضحة تجاه المعاناة الإنسانية وخصوصاً في سورية، وقضية اللاجئين، ليضاف إليها القلق من تهرب ترامب من اتفاقيات تجارية مهمة لأوروبا". وتشير ماركسون إلى "تصريحات ترامب، كرجل أعمال، عن دول البلطيق والقرم والأزمة السورية والثناء على رئيس في موسكو يدمر ويشرد شعباً بأكمله نحو الغرب".
أما الكاتبة الأميركية، آنا أبلباوم، فترى أن "لترامب حلفاء في دول غربية، إضافة لحليفه الروسي الذي يريد وبلا شك إضعاف حلف الأطلسي باستعراضات ستفشل، فمارين لوبين أيضاً ضد الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي، وترامب وبوتين يراهنان عليها وعلى نادي التطرف". وتعتبر أن "مثل تلك التحالفات هي كنبوءات يوم القيامة لقيادات أوروبا اليمنية المتطرفة، فما كان غير ممكن أصبح ممكناً اليوم، سنرى لوبين تحتفل، وسنرى تمريغاً لعجرفة النخب السياسية المتغطرسة على شعوبها، وشمبانيا بوتين بالتأكيد شُربت في الكرملين"، مضيفة: "نحن بصدد مسألة ستتوسع وهي ما تريده الشعوب ويمكنها تحقيقه (شعار لوبين)، وذلك يعني ببساطة أننا أمام عصر فصل النخبة وعدم تصديقها، خصوصاً النخب القديمة التي جُرّبت سابقاً".
القلق من تأثير ترامب على مستقبل أوروبا في المدى المتوسط، يتمدد في القارة العجوز، ويُلاحَظ في السويد والدنمارك وألمانيا والمجر وغيرها، مع وجود أحزاب "ديمقراطيي السويد" و"الشعب الدنماركي"، و"البديل لأجل ألمانيا"، وحزب "الحرية" الهولندي، وحزب "القانون" البولندي. كما أن النمسا، ستقدّم لأوروبا اليميني المتطرف نوربرت هوفر. والقائمة تطول إلى جانب الحركات الفاشية والنازية الجديدة، التي رفعت في احتفالاتها الجديدة بفوز ترامب العلم الإسرائيلي، وأطلقت تصريحات ضد الأوروبيين غير البيض، في إشارة مرعبة للأوروبيين من أصل مهاجر.
باختصار، ينتظر الأوروبيون، وبالأخص أعضاء حلف الأطلسي والمتعاونون معه كالسويد وغيرها، كيف ستكون علاقة ترامب الحقيقية ببوتين. فشكل العلاقة التي تسرب منها "تواصل روسي دائم مع حملته الانتخابية" لا يشي للبعض بأن الأمور ستكون مطمئنة. وفي كل هذه المعمعة تذهب وسائل إعلام غربية، عبر خبراء ومحللين، إلى توثيق معلومات عن العلاقة بين بوتين وإسرائيل وإيران، وهذا أمر يزيد قلق الأوروبيين.