زكي ناصيف... سيرة نهاوند

10 مارس 2019
أطل ناصيف على الفلكلور من شرفة الوطنية (أرشيف)
+ الخط -
يمكننا القول إن زكي ناصيف (1918 - 2004) يمثّل نموذجاً من فئة "الفنان العضوي". ففي لقاء نادر معه لقناة دبي في تسعينيات القرن المنصرم، يقدّم ابن البقاع المُغنّي المُلحّن، عرضاً تلقائياً مذهلاً، أثناء سرده لمجرى حوارية لحّنها، غنّى فيها وديع الصافي جزءاً من مسرحية "وتضلّوا بخير"؛ نص ريمون جبارة وإخراج صبري الشريف، مثّلت فيها صباح، وعُرضت ضمن دورة مهرجان بعلبك 1974.

مسترجعاً ذكرياته، يروي ناصيف، الذي تمرّ ذكرى رحيله اليوم، أحداث المشهد المسرحي الطريف، فتراه يتنقّل بين السرد وأداء المقطع المُلحّن على مقام السيكا، المُربك بحكم استقراره على نغمة مضطربة، بسلاسة عجيبة ومن دون تحضير ولو لثوانٍ قبل الغناء، ولا حتى التقاط الهواء من بعده بغية الاستطراد في الحديث، في مشهد تزول فيه حدود الوجود بين الفنان والإنسان.

شاهدٌ آخر على موهبته الفطرية، حين تحدث ناصيف للمُحاوِر عن أصول "الدبكة" اللبنانية وجذور"الدلعونة" السريانية، ناهيك عن جلاء تبحّره وسعة علمه ومعارفه، يقوم أثناء التنغيم، وبالتلقائية ذاتها، بنقر إيقاع الدبكة السُباعي على طاولة اتكأ عليها. براحة اليد يدمّ، وبالقبضة يتُكّ. أما السبابة؛ فيحلّي بها ويزخرف، لتحلّ فيه صورة الرق والرقّاق، وبحضوره يصير هو النقر والآلة.

تلك "الطبيعانية" في التكوين الفنّي، الغنائي والموسيقي والشعري، لشخصية زكي ناصيف، لهي مدخلٌ أساس إلى فهم إرث هذا الرجل وإسهامه، فمهما ترقّى الموسيقي على درجات الدراسة والمعرفة، في البلد أو خارجه، ومهما دأب ومهما اجتهد، فإن ملكة إبداع اللحن الحلو والعذب، البسيط والمكتمل، الذي ينفُذ إلى الوجدان ويسكن الذاكرة، تظلّ من علامات العبقرية الموسيقية الفارقة.

هكذا، تكاد لا توجد أذن في العالم العربي، لا تثب حين يتناهى إليها لحن أغنية "طلوا أحبابنا طلّوا"، بطلعتها النهاوندية الصافية، ثم هبّتها البياتيّة الراقصة، فمن دون حتى أن يعرف المرء عن صاحب النغمات أو يعلم بمن أبدع الأغنية، تناظر النَظْم واتساق الشكل اتزاناً على تضاد طرفي الشحنة العاطفية، كفيلٌ للّحن بأن يرسخ ويبقى، يحرّك المكنون عند كائنٍ من كان، متى وأينما كان.

بيد أن زكي ناصيف ليس موهبة فطرية فقط، هو أيضاً رمز حركة فنية، سياسية ومجتمعية، كانت تبحث لها وللوطن عن هوية ثقافية. فمنذ نهاية الانتداب الفرنسي عام 1943، عاش جبل لبنان الكبير، الصغير، الرقيق والقاسي، الملوّن والفسيفسائي، مخاضاً لا يزال مستمراً، نحو بناء الدولة. عندها، بدأ اللبنانيون سؤال أنفسهم: من نحن؟ ما نحن؟ وأين هو لبنان من خريطة الشرق والعالم؟

بهمّة مسرحي وإعلامي فلسطيني هو صبري الشريف، وهنا المفارقة إزاء قادم الأحداث العربية، زُرعت أولى بذور الهوية الفنية اللبنانية، حين جعل الأخير منصّة "إذاعة الشرق الأدنى" تحت تصرّف ثلّة شبّان من لبنان، من بينهم زكي ناصيف والرحبانيان، ليُنسبوا لاحقاً إلى "عصبة الخمس"، ويرسموا معاً، منذ مطلع الخمسينيات، ملامح الأغنية والمسرح الغنائي اللبناني.

ناصيف، ابن مشغرة في البقاع، أستاذ الموسيقى في الجامعة الأميركية في بيروت، والمُنتسب للحزب القومي السوري الاجتماعي بكاريزما الأب المؤسس أنطون سعادة، قد جذبته الأسئلة عن هوية لبنان وماهيّة طابعه الثقافي ودوره الحضاري، في إقليم خطّه سايكس وبيكو، وشرخه الاحتلال الإسرائيلي، ثم هيمنت عليه العروبة السياسية الجامعة والتجاذبات الجيوسياسية للحرب الباردة.

ناصيف المُتربّي على الطرب الشرقي المصري وروّاده الأوائل، كسلامة حجازي وسيد درويش، والمتشرب بإرث الأدوار والموشّحات، أحسّ بأن للبنان ما يميزه، وأن لإقليم المشرق الشامي ما يُبرزه، وكمن سبقه من الموسيقيين القوميين في أوروبا، ما بين القرنين التاسع عشر والعشرين، أخذه مسعاه في البحث عن الهوية الموسيقية نحو الفلكلور والأغنية الشعبية.

كان اجتهاده، مثلما كان اجتهاد الرحابنة، في الحَيد بلبنان عن قطبية المجال المتولد عن التيار الوحدوي الناصري بتمظهراته الثقافية الآخذة نحو التمصّر. فكما بشّر سعيد عقل في الشعر واللغة، ونادت أحزاب اليمين اللبناني بالسياسة، رأى ناصيف الخصوصية اللبنانية في جغرافيا البحر والسهل والجبل، في تجاور التكيّة والكنيسة، وفي الريف، بلهجاته الآرامية وجذوره الفينيقية.

لزم تلك الحركة المتّقدة حميّةً وطاقة إبداعية، فضاءٌ إنتاجيٌ حاضن، خصوصاً لجهة الاشتغال بالمسرح الغنائي وما يتطلبه من تغطية للتكلفة وتأمين الكوادر والأمكنة. هنا، أدّت ظاهرة مهرجان بعلبك الفريدة، دور المرفأ الذي رست فيه المواهب الفنية، التي كان لزكي ناصيف، ولكوكبة من مجايليه، دور الرائد والرافد لعروض ونتاجات متنوعة وعديدة، أثرت الذاكرة الجمعية لأجيال قادمة.

مهرجان بعلبك، ومن خلاله مسرحيات عاصي ومنصور الرحباني، وفيلمون وهبي وزكي ناصيف، كان وجهاً للبنان في فترة ما بين الاقتتالين الأهليّين؛ الأول سنة 1958 والثاني سنة 1975؛ برقُ فترة ازدهار واستقرار، صار فيها لبنان ببحره وجبله مقصداً سياحياً، وبأسواقه ومصارفه وجهةً لرؤوس الأموال العربية، وبأحزابه ومذاهبه حوضاً للتعددية السياسية.

ذلك المناخ من التحرر، زرع في كل من زكي ناصيف وسائر أقطاب الحركة الفنية والمسرح الغنائي اللبناني بذرة التفتّح على التراث والمعين المحلي من جهة، ثم على المؤثرات الغربية القادمة من الخارج من جهة ثانية، لجهة توظيف الآلات الغربية، كالغيتار والبيانو، عند كل فرصة لن تؤدي معها إلى الاشتباك مع الطابع اللوني والمقامي الخاص بالأغنية الشعبية، "الميجانا يابو الميجانا" مثلاً.

لم يُطلّ ناصيف على الفلكلور عبر فوّهة المحلية، وإنما من شرفة الوطنية. لم يكن العَوْد على مشغرة عودةً إلى الضيعة وإنما إعادة اكتشاف لبنان، ولم تكن سريانيّة الدلعونة تنقيباً عن ماضيه، بل عبوراً بمسألة هويته إلى مستقبله؛ عروبته أم فينيقيّته؟ إسلامه أم مسيحيّته؟ إقليمه أم عالميّته؟ أسئلةٌ شغلت الفنان، فراح يبحث عن البيان في القرية، في ماء الينبوع وفي ظل الشجرة.

اليوم كالأمس، كل المنطقة في غليان، يُعاد طرح ذات الأسئلة، في السوق وفي الشارع، على صفحات الكتب والمواقع وفي ميادين القتال، في المسرح والسينما وفي الأغنية، خريطة جديدة تُرسَم، مجالات إقليمية تؤثر؛ فارسية وعثمانية، عولمة وذائقة استهلاكية، حروب وثورات على أعتاب برزخ معرفي مُبهر ومخيف، يغيب عنه فنانٌ عضويٌ كزكي ناصيف، ويحضر إرثه الوديع والصافي.

المساهمون