زاهر خليفة.. أن تصنع عوداً في دمشق

12 ابريل 2015
خليفة في مشغله في دمشق
+ الخط -

يسجّل تاريخ الموسيقي العربية الحديث أن ازدهار وشهرة آلة العود العربية الشامية بدأت منتصف القرن التاسع عشر، مع عائلة "النحات" الدمشقية. ويُشاع أيضاً أن اسم النحات كان قد أطلق على العائلة بسبب امتهانها حرفة النجارة ونحت الخشب، حيث لم يقتصر عملها آنذاك على صناعة آلة العود، بل نشطت أيضاً في أعمال حرفية متعلقة بفن النحت والتزيين في الكنائس الدمشقية، وصناعة الأثاث.

في منتصف القرن العشرين، هاجرت العائلة إلى مدينة ساو باولو البرازيلية، لتعمل في صناعة الأثاث. وكان إلياس النحات (1902 - 1993) هو آخر أبنائها، الذي ثابر على صناعة آلة العود، ليطوي معه تاريخ عائلته في هذه الصنعة، وأسرارها التي اشتهر بها عودهم.

بعد ذلك، برزت عائلة بدروسيان ذات الأصول الأرمنية، التي استمرت في صنع الآلة حتى هِجْرَتِها من سورية أوائل أربعينيات القرن الماضي، لتحل محلها عائلة خليفة، وتحديداً الإخوة علي ومحمد وموفّق.

بدأت هذه العائلة بصنع آلة العود في عام 1948، وازدادت شهرتها في العالم العربي مطلع السبعينيات؛ ما دفع العائلة إلى توسيع نطاق إنتاجها للآلة، الذي رافقه تجاهل لمعايير جودة صناعتها، كحال العديد من الورش وقتها. وقد أثّر ذلك سلباً على اسمها المرتبط بهذه الصناعة، وكان من شأنه أيضاً تدنّي مستوى جودة العود السوري بشكل عام.

بعد وفاة الأخ الأكبر، علي خليفة، تفرّق أبناء العائلة، ومنهم زاهر خليفة، الذي حافظ على الصنعة، لكنه اتّخذ طريقاً مختلفاً نأى فيه عن صناعة العود التجاري الرائج، ليصبح اليوم اسماً بارزاً بين صنّاع الآلة في العالم العربي.

في السابعة من عمره، بدأ زاهر (1985)، ابن المعلّم محمد خليفة، العمل في ورشة العائلة، فتشبَّع المهنة وارتبطت بوجدانه، ونشأ على وقعها. في عام 2007، قرر إنشاء ورشته الخاصة، وبدأ بصناعة أعواد تحمل توقيعه.

يقول لـ"العربي الجديد": "نشأت في ورشة العائلة، ولم تكن آلة العود بالنسبة إليّ مصدراً لكسب الرزق فقط، بل فرصة لعملٍ إبداعي وفني أيضاً". لم يعتمد زاهر فقط على ما اكتسبه من معرفة خلال عمله السابق في ورشة العائلة، بل لجأ أيضاً إلى البحث والدراسة، للحصول على أكبر قدر ممكن من العلم يتيح له إنتاج آلة العود التي يحلم بها.

لذلك، سافر إلى تركيا، وأمضى وقتاً مع صانع العود التركي، برهان شيشني، وبعدها انتقل إلى القاهرة حيث التقى وتحاور مع صنّاع الآلة. كان يتحرك في كل الاتجاهات ويفكّر في "إعادة الاعتبار إلى العود السوري بعد أن بدأ يفقد شهرته منتصف تسعينيات القرن الماضي، بسبب قلة اهتمام أصحاب المهنة ورغبتهم في تلبية زيادة الطلب على الآلة في السوق العربية؛ تلبية جاءت على حساب جودة الصناعة".

يعترف زاهر بحالة التخبّط التي تعيشها هذه الصناعة بسبب "عدم وجود مقاييس ثابتة ومتفق عليها من قبل الصنَاع"، وبسبب انجرار بعضهم إلى خلق أصوات هجينة انحيازاً لمدارس عزف معينة، على حساب الصوت الأصيل لآلة العود العربي الذي يمتاز برخامته وعمقه وقوة "قراره" (Bass).

منذ منتصف التسعينيات، لم تشهد صناعة العود تطوراً بارزاً يذكر، بينما حقق العود التركي، نظراً إلى سهولة الحصول عليه، إضافة إلى جودته وسعره المناسب، شهرة واسعة لدى جمهور العازفين العرب والأجانب. يعلّق خليفة على هذا الموضوع:

"للأسف هناك عالمان في صناعة العود في البلاد العربية، الأول هو الصناعة التجارية، التي اهتمت بالشكل على حساب الصوت، وبالتالي حوَّلت الآلة إلى قطعة ديكور في المنزل، وهي منتشرة من خلال ورشات تعمل على إنتاج كميات كبيرة، من دون خلفية فنية أو علمية ضرورية لبلوغ الآلة الصحيحة. أما العالم الآخر، فهو عالم الصُنّاع الذين حافظوا على أصول الصنعة، وهم الآن عبارة عن مجموعة صغيرة لا تتعدى أصابع اليد الواحدة. عدم وفرة الصنّاع الجيدين أدى بالتالي إلى ارتفاع سعر العود الجيد".

أما سبب تفوّق العود التركي على العود العربي "فيعود إلى أن الآلة التركية لديها مرجعية موسيقية واحدة وقياسات محددة، ترتكز أصلاً على المقامات التركية المعروفة. أما في العالم العربي، فبمقدار تعدد لهجاته نجد قياسات وطُرقاً لصناعة الآلة، مما أدى إلى حالة من التشتت في القياسات والأصوات الناتجة عنها، وساهم في عدم تطور عودنا".

على الرغم من الأوضاع المأساوية التي تعيشها سورية حالياً، لم يغادر زاهر مدينته، علماً بأنه فقد ورشته ومنزله، واضطر إلى الانتقال إلى منزل آخر أكثر أماناً، يقتسم فيه العيش والعمل معاً، وذلك على الرغم من صعوبة ظروف عمله الذي يتطلّب شراء الأخشاب والمواد اللازمة غير المتوفرة في السوق المحلية، وشحن الطلبات، إلخ.

في غرفة صغيرة داخل ذاك المنزل، ينحتُ الفنان الشاب أخشابه، ليخرج لنا أصواتاً مختلفة عن تلك، المدوية، التي تقع على مسمعه هذه اللحظة، في مدينة الياسمين.

دلالات
المساهمون