بمجموعة من أغاني ألبومها الأول، ومجموعة أخرى جديدة تنوي إصدارها في عمل خاص للشيخ سيد درويش، قدّمت الفنانة الفلسطينية ريم الكيلاني (1964) مؤخراً عملاً جديداً سُجّل في أواخر عام 2012 من حفل حيّ أحيته في قاعة "تابرناكل" ضمن فعاليات مهرجان "نُور" الذي يقام سنوياً في لندن.
ريم المولودة في مانشيستر شمال بريطانيا لأبوين فلسطينيين، تأتي من خلفية علمية بحتة، فقد عملت باحثة علمية في علوم البحار في "معهد الكويت للأبحاث العلمية"، بعد أن أنهت دراستها في "جامعة الكويت" - حيث نشأت - في مجال علوم الأحياء والحاسوب الإلكتروني؛ هذه الخلفية التي استثمرتها طيلة عشرين عاماً مدعمة بدراسة الموسيقى بعد عودتها من جديد إلى بريطانيا، أسفرت عن عملها الأول "الغزلان النَّافرة: أغانٍ فلسطينية من الوطن الأُم ومن الشتات" (2006) الذي كرسها كصوت موسيقي خاص من فلسطين.
إلى جانب توثيق التراث وإعادة إحيائه، والتنقل بين مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في كل من فلسطين والأردن وسورية ولبنان، تحرص الكيلاني على وضع المستمع في جوّ النص والزمان والمكان بشرح مكتوب مع الألبوم، إضافة إلى الكلمات مترجمة إلى اللغة الإنجليزية، وكأنها تجمع شتات ما حمل الفلسطينيون في جعبهم من قصص وأغاني ما قبل النكبة، لترسم للمتلقّي معالم حياة سُلبت ولتثير الفضول حولها من جديد، بهندام الجاز ومضمونه.
في ألبومها الأخير الذي حمل اسم "ريم الكيلاني: حفل مهرجان نور" 2016، نجد أنفسنا أمام مزيج يتنقل بين التصرّف الغنائي، وإعادة إحياء لأغانٍ تراثية بخصوصية هويتها، وإعادة توزيعٍ موسيقي بتنوّع قوالبه. ما نشهده هنا ثلاثة تحديّات، كل تحدٍ منها يعتبر مغامرة مربكة وليست سهلة لأي فنان، إضافة إلى مخاطبة العالم بلغة ومفردات ذات طابع ثقافي شديد الخصوصية.
تبدأ ريم في الأغنية الأولى لهذا العمل من حيث انتهت، بمقدرتها على غناء التراث الفلسطيني بشعبيته وعفويته، بتصرّف غنائي قادر على استحضار تلك الروح الأصيلة، بمعنى القدرة على الغناء بتقنية وحرَفيّة أقل بشكل مقصود - وهو الأصعب بنظرنا - الذي بدوره أسهم في إيصال الأغنية من دون المساس بشعبيتها.
كما نستطيع سماع هذا التصرف بإحساسه صراحةً في أغنية "فراقيات". إلّا أنها أيضاً تنقلت غنائياً بتصرّف محترف بين الجاز والعربي الساخر والبلوز بسلاسةٍ ملفتة، كما أغنية "إقرأ يا شيخ قفاعة" للشيخ سيد درويش.
لعل أغاني الشيخ المختارة هنا أقدر على استيعاب ما تودّ الفنانة توظيفه من توزيع وأداء وتصرّف غنائي وموسيقي، من حيث المقام المستخدم ومضمون الكلام، لنجد تصرفاً مغايراً يحاكي النص، وتوزيعاً موسيقياً يُظهر مقدراتها على توظيف عناصره لما تودّ قوله.
إذا صنّفنا العمل لأغانٍ تراثية فلسطينية، وأخرى عربية، وثالثة من ألحانها، تم تنفيذها بالآلات الموسيقية نفسها، وخُضنا في عناصر مكوّنات الأغنية؛ نستطيع أن نذهب في القول بأن الكلمة تأتي في المقام الأول لدى الكيلاني، ابتداءً من خياراتها للأغاني التي أعادت توزيعها انتهاء بالتي لحّنتها، قد يكون هذا العامل ما أخرج العمل من فخّ الرتابة ونمطية الجو العام.
ففي أغنية "تهليلة جليلية" من ألحان الكيلاني، نجد أغنية تمزج بتصاعد درامي حساً عالياً مع كل حرف من النص بتصرّف غير مألوف، يتراوح بين الغناء والموّال المرتجل.
رغم أن معظم محاولات "إعادة إحياء التراث" يكون مصيرها، غالباً، عرضاً فنياً في بعض المهرجانات ذات الطابع التراثي المحلي، أو خلفية موسيقية للوحات رقص شعبي، وذلك لخصوصية الأغنية التراثية ومفرداتها التي جعلتها حكراً لبيئتها، إلّا أن الكيلاني بتجربتها نجحت بوضع هذا العمل ضمن تصنيف الجاز وما يسمى الموسيقى العالمية والإثنية، من دون المساس بأية جزئية من مكوّنات الهوية لأغانيها، فمثلاً في أغنية "يا ريم الغزلان" في نسختها الجديدة نجد تصرفاً غنائياً يحاكي الأسلوبين، وإعادة إحياء أصيلة أقرب ما تكون لنسخة أصلية.
عُرفت الكيلاني مغنية للتراث الفلسطيني، الأمر الذي قد يظلم فنّها لشيء من النمطية علِق المصطلح، فلطالما اعتمدت الفرق الفلسطينية ذات الطابع التراثي على فرضية أن العالم يقبل كل ما هو فلسطيني من باب التضامن والتعاطف، وهذا ما نجت منه الفنانة بجدارة حتى الآن.
إلى جانب كونها الباحثة والموزعة موسيقياً والمؤدية، نجد أنها المنتجة أيضاً بلا اعتبارات تجارية أو شعارات تسويقية. بعد الاستماع للعمل، نجد عناصر موسيقية منسجمة، فنانة قادرة على استخدام لغة الفن ومفرداته بلغة محلية خاصة.
من المنتظر أن تصدر الفنانة في عام 2018 حصيلة عشرة أعوام من البحث في موسيقى الشيخ سيد درويش، تتقصى هذا الإرث في كل من مصر وسورية وتركيا، تعاود الأسلوب نفسه بخبرة أكبر، تجمع التراث كمن يجمع أصوات أسلافه، وحتى تلك اللحظة نستطيع الاستماع إلى أجدادنا على طريقة ريم الغزلان إلى أن تعود النافرة منها من رحلة بحثها الجديدة.