رياض الصالح الحسين.. عيدٌ واحدٌ للقبلة

10 مارس 2014
رياض الحسين: سأحدِّثكم بحبّ
+ الخط -
سيطرَت الغنائية المُفرطة والخطابية على الشعر العربي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، نظراً للظروف السياسية التي لعبت دوراً رئيساً في تشكيل الهُوية الشعرية وأدواتِها في تلك المرحلة.

لم يكن سهلاً أن يُقدِّمَ شاعرٌ في ذلك الوقت قصيدة مُتحررة من "الحماسة" العالية المثقلة بالأيديولوجيا، ناهيك عن تحررها من العَروض والإيقاعات التطريبية؛ ليُطالبَ باليومي والبسيط من دون أي تكلُّف.

استثناءات قليلة تلك التي استطاعَت أن تكسر الأُطر التي تتحرّك بداخلها البُنى الشعرية. ومن هؤلاء الشعراء السوري رياض الصالح الحسين (1954 ـ 1982)، الراحل مُبكّراً عن 28 عاماً فقط، والذي تصادف اليوم (العاشر من آذار/ مارس) ذكرى ميلاده الستّين. الشاعر الذي يُقال إنه توفي نتيجة خطأٍ طبّي بعدما تحدى الصمم والبكم في عمره القصير، يبدو الصوت الأكثر تعبيراً عن مأساة الفرد في التراجيديا السورية الكبرى الجارية فصولها الآن.

لم يؤثر الإرث الاشتراكي في قصائد صاحب "وعل في الغابة" لجهة الأسلوب، بقدر ما أثّر في موضوعاته الشعرية. فكان لأفكار الحرب والطغيان حضور بارز في قصائده، من دون أن يخفي انحيازَه للفقراء أو لتيمات الجمال من حوله. هاجياً من خلالها البشاعة والقُبحَ، بلا صراخٍ أو عويل أو شتائم، كما يلحظ قارئ قصائده في تلك الفترة.

كما لم تنَلْ الأيديولوجيا من شعرية نصوصه وألمعيّتها، بل بدا الحسين هادئاً ومُراوغاً بمهارة في التعامل مع ما نتج عن مخاض المرحلة السياسية من آلام: "وسأقف، أيضاً، سأقف/ لأحدِّثكم عنِّي/ مثلما يتحدَّث الديكتاتور عن سجونه/ والمليونير عن ملايينه/ والعاشق عن نهدي حبيبته/ والطفل عن أمِّه/ واللصّ عن مفاتيحه/ والعالم عن حكَّامه/ سأحدِّثكم بحبّ، بحبّ، بحبّ/ بعد أن أشعل سيجارة!".

أبرز ما في تجربة الحسين كان عُري قصيدته وتخلّصها من الأعباء البلاغية والشكلية، وتحرّكها المستمرّ في المجال الحيوي للمعنى، من دون لجوئه إلى مُحسّنات إيقاعية تستدرج أُذن القارئ نحوها على ما كان سائداً. بل، وإلى حدٍّ كبير، حقّقَت شروط قصيدة النثر؛ إذ لم تكن وسيلة "سماعية" وحسب، وإنّما كانت تفعيلاً للحواس كلّها من بصرٍ وشمّ وتذوّق.

لم يلجأ الحسين إلى إثقال قصائده وإرهاقها الأفقي بالقضايا الكُبرى والاستناد إلى الإرث التاريخي ليقدِّمَ مقولتَه الشعرية، بل كانت قصيدته نابعةً من المُعاش والآني. ومن هنا نقفُ قليلاً عند عنوان مجموعته الثانية: "أساطير يومية" (1980)، التي بدا ميله فيها واضحاً لنهل ماء شعره من كل هذه التفاصيل، مبتكراً "أساطيره" الخاصّة، والبعيدة عن الجاهز والمجّاني، مُوظفاً القضايا الكبرى كأداة يومية، لا هدفاً شعرياً لذاتها.

وانعكس هذا بالضرورة على لغته الـ"السلسة" أيضاً كالماء، والواضحة كـ"طلقةِ المسدّس"، بحسب عنوان إحدى مجموعاته الشعرية. والوضوح هُنا لا يعني الوقوع في فخ المُباشَرة، أو التقريرية الفجّة. إذ كان يصوِّبُ في عمق المعنى الذي يريد بأقل الكلمات وأكثرها مرونةً: "نحن الأطفال البُلهاء/ الذين لم نُغمِّس أجسادنا بالماء المقدَّس/ لماذا لا نذهب إلى البحر/ لنسنَّ أسناننا بمياهه المالحة/ ونعود إلى الوطن بقلوب قويَّة؟".

كلّ الحديث عن بشاعات السبعينات السلطوية، لم يكن بحاجة لأكثر من سيجارة يُشعلها الشاعر، لأنها لا تستحق مجهوداً أكثر من ذلك. لكنّ الحُبّ كان مُكلفاً في شعره في خضمّ كل تلك البشاعات: "ماذا نفعل/ إذا كان ثمّة عيدٌ واحدٌ للقبلة/ وأعيادٌ كثيرةٌ للقتل/ ماذا نفعل؟".

دلالات
المساهمون