بعد مشهد افتتاحي طويل ومملوء بالغناء الجميل تؤديه مجموعة من النساء، تدخل عنزة إلى خشبة المسرح. إنها ممثلة في مسرحية "أوديب الطاغية" لروميو كاستولوتشي التي عرضت على مسرح "شاوبونة" في برلين أخيراً.
ظهور العنزة ليس هو العنصر الوحيد الذي يستدعي رفع الحواجب استغراباً في مسرحية "أوديب" الجديدة. فقد اختار المخرج الإيطالي فريقاً من النساء ليمثلن أدوار شخصيات المسرحية. وباستثناء شخصية تريزياس، العرّاف الأعمى، والذي تقول الأسطورة إنّه اختبر أن يكون امرأة لسبعة أعوام، تقوم ممثلات بتأدية شخصيات المسرحية، بمن فيهم الجوقة وأوديب نفسه أو نفسها.
من المعروف عن كاستولوتشي (1960) تقديمه لعروض مأخوذة عن نصوص كلاسيكية مثل "الكوميديا الإلهية" والشكسبيريات، والمسرحيات الإغريقية. وقد اختار في عرضه هذا ترجمة الألماني فريدريش هولدرلين لنص سوفوكليس، طارحاً أسئلة عن إمكانية ألا تقتصر عقدة أوديب على الذكور فقط؟
يستدعي قيام الممثلة أورسينا لاردي لشخصية أوديب أسئلة عن اللعنة والجنس والمثليّة ودور المرأة في قرارت الآلهة، ودورها كمحققة ومجرمة وطاغية وحاملة لأفكار عصرها. والآن، وبعد مضي ما يزيد على 25 قرناً على نص سوفوكليس، وفي عصر يسعى جاهداً لمواكبة المفاهيم المتحوّلة، تتخطى أسئلة أوديب مفهوم الذكر لنفسه لتصبح أسئلة تعني الأنثى أيضاً.
يحافظ كاستولوتشي على المشهد الإغريقي بديكوراته وأزيائه من دون أن يسعى إلى تقديم عرض متحفيّ. على العكس، يستخدم هذه المتحفية لغاية بريشتية صرفة، ولكي يخلق مسافة زمنية بين النص القديم والأسئلة الراهنة. ولكن المسافة الفعلية التي يخلقها العرض، من خلال طاقم الممثلات ونصوص هولدرلين، تقع بين ما هو عقلاني وما هو غيبي.
أكثر ما يثير سخط أوديب هو نبوءات تريزياس البعيدة تماماً عن التراتب المنطقي الذي يسلّم به أوديب للكشف عن الجريمة. هناك صراع بين عالمين للوصول إلى الحقيقة: المنطقي التحليلي ونبوءات الأعمى. ينتقل هذا الصراع إلى تحدٍ يفرض على المهزوم عقاباً يقوم به بنفسه، فيفقأ أوديب عينيه لأنه لم ير الحقيقة التي رآها الأعمى.
هل هي الغيرة؟ وهل هي غيرة النساء في شخصية أوديب الذي ضاجع أمّه كما هو النص، والذي تؤديه ممثلة لتكشف عن غيرتها الأنثوية كما تكشف عن صدرها في العرض؟
أمام زخم وإرهاق أسئلة عرض كاستولوتشي، تظهر العنزة على خشبة المسرح، لتزيد من الأثر البريشتي بطريقة فجّة. لم يتمالك الجمهور نفسه فحاول تغطية صدمته بحضور العنزة في حضن العرّاف تريزياس بالضحك. وفي خضم أسئلة الحقيقة وسلاسة لغة هولدرلين، تثغو العنزة.
يقوم كاستولوتشي بالمجاورة بين نقاشي المنطق والغيبيات من خلال ثغاء الماعز (الأبعد ما يكون عن فهمنا)، وقد تكون العنزة صاحب الحقيقة في نظر كاستولوتشي، في الوقت الذي نحاول أجمعين أن نرى الحقيقة ببصرنا وبصيرتنا.