روسيا وتركيا... تاريخ وحاضر

05 يوليو 2016
+ الخط -
يأسف رجب طيب أردوغان لسقوط طائرة السوخوي، برسالةٍ بدت مقتضبةً، لكنها أزالت الصقيع الذي أحاط بالعلاقات الروسية التركية منذ ستة أشهر، وكأن بوتين كان ينتظر هذا الخطاب القصير، ليطلق وزراءه في حملة مصالحةٍ تحمل طوابع أمنية واقتصادية. كان بوتين قد وصف إسقاط الطائرة بأنه "طعنةٌ في الظهر"، وهذا تعبير يقول ضمناً إن روسيا كانت تعتبر تركيا صديقاً حميماً، وليس من المتوقع أن تقوم بذلك.
كان البَلَدان يُظهران تناغماً اقتصادياً وأمنياً إلى ما قبل أزمة أوكرانيا، عندما أبدت تركيا موقفاً قريباً من تجمع "الناتو" الذي تنتمي إليه، ما جعل العلاقات تُصاب بارتعاشةٍ، ثم تدخل في حالة تيبسٍ بعد التدخل الروسي المباشر في سورية، قبل أن تتجمد تماماً عقب إسقاط الطائرة.
تاريخياً، لم تكن علاقة البلدين ودودةً مطلقاً، فخلال الفترة بين منتصف القرن السادس عشر وبدايات القرن العشرين، خاضت الدولتان حروباً تكرّرت كل سبعة وعشرين عاماً، بدأت بحملة استراخان في عهد الصدر الأعظم، محمد الصقلي الذي أراد توحيد نهري الدون والفولغا. ولكن، من سوء حظ الصقلي حينها، أن إيفان الرهيب كان على الجانب الروسي، ففشلت الحملة من دون تحقيق أهدافها. أما آخر مواجهةٍ فكانت في أثناء الحرب العالمية الأولى، وحدثت معارك مباشرة بين الطرفين في منطقة القوقاز. كانت كل تلك الحروب شكلاً تنافسياً لاعتباراتٍ جغرافيةٍ واقتصاديةٍ، تمليها الطبيعة الإمبراطورية لكلتا الدولتين، ورغبة كل منهما في ترسيخ ذاتها الحاكمة، وكان البحر الأسود ومضيق البوسفور الموضوعين الملتهبين في العلاقة بين الدولتين.
لم ينفع روسيا مصطلح "رجل أوروبا المريض" الذي نحته وسوّقه القيصر نقولا الأول، في التخلص من الإمبراطورية العثمانية المنافسة، بسبب رغبة إنكلترا وفرنسا بوجود حاجز "طبيعي" بينهما وبين الروس كالإمبراطورية العثمانية. لم تكد المدافع تتوقف عن القصف، معلنةً انتهاء الحرب العالمية الأولى، حتى تفكّكت الإمبراطوريتان إلى أشلاء.
الأجواء المالحة السائدة بين الدولتين اللتين ورثتا العهد الإمبراطوري، تركيا والاتحاد السوفييتي، استمرت عندما انضمت تركيا إلى حلف شمال الأطلسي (1952)، ووجدت نفسها على الخط الأول في مواجهة حلف وارسو الذي ترأسه الاتحاد السوفييتي، وشكلت الدولتان جزءاً من الحرب الباردة التي لفت العالم نصف قرن، حيث أيد الاتحاد السوفييتي المتمردين الكرد، ومدّ لهم يد المساعدة، كعامل إزعاج لدولة من دول "الناتو"، وهو السلوك نفسه الذي كان تعتمده روسيا القيصرية لإزعاج الباب العالي.
بدأت ملامح علاقاتٍ جديدةٍ بالتشكل، مختلفةً كثيراً عن إرث الماضي، وذلك مع تفكّك الاتحاد السوفييتي وانفراط العقد الشيوعي. توقف الدعم التركي لمقاتلي القوقاز، وتوقفت التدخلات المؤثرة في جمهوريات آسيا الوسطى. في المقابل، توقف الدعم الروسي للأكراد، ووصل الأمر إلى حد رفض منح عبد الله أوجلان حق اللجوء السياسي، بعد أن أمضى شهراً في موسكو، كان لبوتين حينها اليد الطولى، بينما يلتسين يلفظ أيامه الرئاسية الأخيرة.
وصل التناغم إلى علاقاتٍ اقتصاديةٍ حميمةٍ، تحول فيها الطرفان إلى أكبر شريكين اقتصاديين، وحفزت كراهيتهما للغرب تلاصقَهما، إلى أن بدأ التخلخل في العلاقات بعد الحرب السورية وأحداث أوكرانيا، ثم حدث سقوط السوخوي المزلزل.
الاعتذار التركي يُبدي أسفاً على سقوط الطائرة، لكنه لا يتضمن الموافقة على المهمة التي كان يقوم بها الطيار، وهذا يعني أن الموقف التركي لن يتغير كثيراً من الحرب السورية، لكنه قد يكون أكثر حزماً في مواجهة تنظيم الدولة، رغبةً في كسب الروس لمواجهة تهديد الكرد المحتمل، وتعديل العلاقة الاقتصادية التي انحرفت بشدة. من غير المؤكد أن ابتعاد أحمد داود أوغلو عن الواجهة واستبداله ببن علي يلدريم ما سيعيد الدفء إلى العلاقات، ويبدو يلدريم قادراً على قيادة خطةٍ من هذا النوع، وقد يكون هو من أوحى بها، بعد فشل خطة داود أوغلو "صفر مشاكل".