إلى جانب الوصفات التي تعرض القواعد الذهبية للفوز بلعبة البوكر، تُطالِعنا الصحافة العربية بمقالات طريفة تقدّم نصائح لا تقلّ بريقا للفوز ليس بالبوكر كلُعبةٍ هذه المرّة، وإنّما كجائزةٍ شغلت أهل الرّواية العرب في السنوات الأخيرة. والآن بعدما انضمت"كتارا" إلى لائحة الجوائز الثمينة، سنقرأ مع توالي الدورات مقالات تُحيط بخطّ وسياسة هذه الجائزة، ومن ثمّ القواعد الذهبية المطلوبة في النّص الطامح إلى نيلها.
وإذا كان التهويم والتجريب والبوح الذاتي من العناصر التي تقلِّص فرص الظفر بجوائز الرواية في العالم العربي، فإن فرض شروط مسبقة على النص وبلورة وصفة روائية نموذجية قد تستبعد تجارب عربية مهمة. هكذا يجد روائي مثل سليم بركات نفسه على الهامش تمامًا، هو الذي رسّخ الفانتاستيك جنسا قائما بذاته في السرد العربي. فصاحب "فقهاء الظلام"، و"أرواح هندسية"، و"معسكرات الأبد" برع في خلق المتاهات والشخصيات المأزقية، وكذا في توظيف الخارق والعجيب في رواياته، مستقطبًا الميثولوجي والماورائي، وموظِّفا نزعته التأمّلية في مصائر الكائنات، ومعارفه المتّصلة بعلوم الباطن والإلهيات والفلكيات في أعمال يتحاور داخلها الطير والبشر والحيوان. لكن مُحَكّمي الجوائز المعنيّين بمصالحة القارئ العام مع فن الرواية ستصعبُ عليهم المراهنة على بركات، لذلك ظلت تجربته بعيدة عن منصات التكريم.
الكتابة الروائية السيرذاتية الحرة النابضة بالحياة تعاني بدورها من نفس التبخيس. النماذج عديدة في العالم العربي، لكنني سأتوقّف عند مثال حسونة المصباحي. منذ "هلوسات ترشيش" و"الآخرون" و"وداعًا روزالي" حتى روايته الأخيرة "أشواك وياسمين" والمصباحي يكتب بحرية قصوى من دون أن ينشغل باحترام الشروط الروائية. فما إن يبدأ هذا المتسكع في الحكي حتى يجد القارئ نفسه قد تحوّل إلى رفيق سفر.
في "هلوسات ترشيش" نسافر وراء هذا التونسي الذي خان أجداده البدو في كل شيء، إلا في حبهم للتيه، إلى أوروبا لنستقر معه في شقته البافارية الصغيرة في ميونيخ. في "أشواك وياسمين" يؤرّخ للثورة التونسية برؤية نقدية حادّة. يستعرض أحداثًا من تاريخ تونس منذ حكم مراد الثالث حتى ثروة العربان ضدّ حكم البايات، فدخول الاستعمار الفرنسي، ثم ينتقل إلى تدوين يوميات الثورة. يكتب حسونة تاريخ بلده بذاتية قصوى، وبلا حياد. يكتب عن تونس، وحين يسافر إلى الدار البيضاء أو لوس أنجليس يدعو القارئ لمرافقته. بل ويضع أحداث روايته جانبا ليحدّثه عن "فيلا أورورا" حيث يكتب. وحين يتعب حسونة، يتمدّد على الفراش ليقرأ قليلا قبل النوم. هنا أيضا على القارئ أن يكون مستعدّا. فالرجل يحكي قراءاته مثلما يحكي أسفاره، ثم يعود للتفاعل مع الأحداث السياسية الساخنة.
هكذا هي الرواية عند حسونة المصباحي. مزيج من اليوميات وأدب الرحلات والغوص في التاريخ والسفر بين النصوص الأدبية الرفيعة.
- هي حياتك إذن يا حسونة؟ يجيبك حين تطرح عليه السؤال: "وماذا كتب هنري ميللر غير حياته؟".
أن تكتب حياتك، أو أن تحلّق خارجها. أن تحكي تاريخك الشخصي، أو أن يجنح بك الخيال نحو الخارق العجيب. هذه اختيارات كُتّاب. والمفروض أن تبحث لجان التحكيم عن الجوهر الحيّ للأدب في التجارب المختلفة خارج سلطة المعيار والقوالب الجاهزة. ولقد أعطتنا الأكاديمية السويدية درسًا بليغا وهي تمنح جائزة نوبل هذه السنة لصحافية تكتب الريبورتاج الأدبي. فالبيلاروسية سفيتلانا ألكسيفيتش لم تدّع قطّ أنها كاتبة رواية. فهي تقيم في المنزلة بين منزلتي الرواية والريبورتاج. لكن جائزة نوبل بوّأت كتابتها الوثائقية وأسلوبها الصحافي الاستقصائي الصدارة الأدبية. هكذا يمكن للجان التحكيم حين تتفاعل مع الأدب بحرية أن تُوسِّع من مداره عوض تقييده بشروط ومعايير جاهزة.
(كاتب وشاعر مغربي)
وإذا كان التهويم والتجريب والبوح الذاتي من العناصر التي تقلِّص فرص الظفر بجوائز الرواية في العالم العربي، فإن فرض شروط مسبقة على النص وبلورة وصفة روائية نموذجية قد تستبعد تجارب عربية مهمة. هكذا يجد روائي مثل سليم بركات نفسه على الهامش تمامًا، هو الذي رسّخ الفانتاستيك جنسا قائما بذاته في السرد العربي. فصاحب "فقهاء الظلام"، و"أرواح هندسية"، و"معسكرات الأبد" برع في خلق المتاهات والشخصيات المأزقية، وكذا في توظيف الخارق والعجيب في رواياته، مستقطبًا الميثولوجي والماورائي، وموظِّفا نزعته التأمّلية في مصائر الكائنات، ومعارفه المتّصلة بعلوم الباطن والإلهيات والفلكيات في أعمال يتحاور داخلها الطير والبشر والحيوان. لكن مُحَكّمي الجوائز المعنيّين بمصالحة القارئ العام مع فن الرواية ستصعبُ عليهم المراهنة على بركات، لذلك ظلت تجربته بعيدة عن منصات التكريم.
الكتابة الروائية السيرذاتية الحرة النابضة بالحياة تعاني بدورها من نفس التبخيس. النماذج عديدة في العالم العربي، لكنني سأتوقّف عند مثال حسونة المصباحي. منذ "هلوسات ترشيش" و"الآخرون" و"وداعًا روزالي" حتى روايته الأخيرة "أشواك وياسمين" والمصباحي يكتب بحرية قصوى من دون أن ينشغل باحترام الشروط الروائية. فما إن يبدأ هذا المتسكع في الحكي حتى يجد القارئ نفسه قد تحوّل إلى رفيق سفر.
في "هلوسات ترشيش" نسافر وراء هذا التونسي الذي خان أجداده البدو في كل شيء، إلا في حبهم للتيه، إلى أوروبا لنستقر معه في شقته البافارية الصغيرة في ميونيخ. في "أشواك وياسمين" يؤرّخ للثورة التونسية برؤية نقدية حادّة. يستعرض أحداثًا من تاريخ تونس منذ حكم مراد الثالث حتى ثروة العربان ضدّ حكم البايات، فدخول الاستعمار الفرنسي، ثم ينتقل إلى تدوين يوميات الثورة. يكتب حسونة تاريخ بلده بذاتية قصوى، وبلا حياد. يكتب عن تونس، وحين يسافر إلى الدار البيضاء أو لوس أنجليس يدعو القارئ لمرافقته. بل ويضع أحداث روايته جانبا ليحدّثه عن "فيلا أورورا" حيث يكتب. وحين يتعب حسونة، يتمدّد على الفراش ليقرأ قليلا قبل النوم. هنا أيضا على القارئ أن يكون مستعدّا. فالرجل يحكي قراءاته مثلما يحكي أسفاره، ثم يعود للتفاعل مع الأحداث السياسية الساخنة.
هكذا هي الرواية عند حسونة المصباحي. مزيج من اليوميات وأدب الرحلات والغوص في التاريخ والسفر بين النصوص الأدبية الرفيعة.
- هي حياتك إذن يا حسونة؟ يجيبك حين تطرح عليه السؤال: "وماذا كتب هنري ميللر غير حياته؟".
أن تكتب حياتك، أو أن تحلّق خارجها. أن تحكي تاريخك الشخصي، أو أن يجنح بك الخيال نحو الخارق العجيب. هذه اختيارات كُتّاب. والمفروض أن تبحث لجان التحكيم عن الجوهر الحيّ للأدب في التجارب المختلفة خارج سلطة المعيار والقوالب الجاهزة. ولقد أعطتنا الأكاديمية السويدية درسًا بليغا وهي تمنح جائزة نوبل هذه السنة لصحافية تكتب الريبورتاج الأدبي. فالبيلاروسية سفيتلانا ألكسيفيتش لم تدّع قطّ أنها كاتبة رواية. فهي تقيم في المنزلة بين منزلتي الرواية والريبورتاج. لكن جائزة نوبل بوّأت كتابتها الوثائقية وأسلوبها الصحافي الاستقصائي الصدارة الأدبية. هكذا يمكن للجان التحكيم حين تتفاعل مع الأدب بحرية أن تُوسِّع من مداره عوض تقييده بشروط ومعايير جاهزة.
(كاتب وشاعر مغربي)