ركلة مهاجر.. ركل شعب

17 أكتوبر 2015
امتلاء العدسات وَتجوُّف البشر (مواقع التواصل)
+ الخط -
بين امتلاء العدسات وَتجوُّف البشر
تقول (البهاجافادجيتا)، الأثر الفلسفي الهندي، في حوار بين التجلي الأعلى للألوهية وأحد أمراء الحرب، إن الحكمة "أن نتحمل، بكبرياءٍ، المذلة التي تسلطها علينا ثقوبنا"، لكن المكتشف أن كهفية مفرطة تعلن عن نفسها، لا كثقب في المحيط أو على أطرافه، بل كهوة كبيرة في دواخل البعض، تشكل فراغا ونهما، تتكرس فاغرة فاها حتى لتغدو فتحات الجسد التسع تلك معابر ضيقة لها، معابر لا تستقبل من الخارج ما يمكن تأثيث الفراغ الداخلي وفقه بقدر ما يبث عبرها فحيحا وسمّاً حتى تصبح العين التي ترى لدى هؤلاء ممرًا لدمع يشبه مكر دمع القاتل على قتيله، دمع يتآزر مع الصوت المزور، تلك كانت صورة مذيعة القناة المصرية، وهي تركل الشعب السوري وتشير إلى همجية وفجع السوريين في تقاسم شحنة مساعدات، ويبدو الأمر متقصدًا فالأمن المصري الذي استطاع فك (اعتصام رابعة) لن يعجز عن تنظيم توزيع الأرزاق، التي لم نسمع أصلا عن تقديمها من نظام مصر للسوريين، الموقف ليس من مصري تجاه سوري بل من نظام عسكري شكرته المذيعة في نهاية حديثها، مترنمة بإبداعات العسكر ووجهت له التحية، قد نتلقى الركلات على أجنابنا بأرجل وأحذية تأخذ نصيبها من أطرافنا، لكننا أوفر حظا ممن سدوا هوة خواء ذواتهم الضحلة ورؤوسهم بالأحذية.


تظهر هنا الفجوة التي دثرت بالتراب مقولة أن الإنسان ليس سوى جرح مفتوح يعيش سفر التضميد والتفتق كل حين ودورة حياة، وكشفت عن ساق مقولةٍ مفتضحة تبرر مشروعية الفجوة أو الهوة التي تبتلع كل شيء ولا تشبع. إنها والحال هذه الهاوية بكل عمقها وشراستها. ولنقل ما دامت الهزائم حديث الساعة فليستنفد الجبناء أكبر قدر من زبدها بضروب الشماتة، أو الادعاء بأنهم في صف من توهموا انتصاره. تظهر الهزيمة أو الكبوة هنا كضرورة حتمية كي تنفخ الحياة خَبَثها كما تلفظ النار شوائب التبر ليصفو ذهبا.

المذيعة، التي صورت مسرحيتها في المساحات الخلفية لمجموعة سوريين لتوصيل رسالة الركل لكل شعب ينتفض، وفي ذلك تضمين للمصريين أنفسهم، أشارت بقولها ما معناه أنه عورة السوريين المكشوفة بسبب الخروج على (قائدهم المفدى)، وكأن انكشاف عورة العوز قدر من الله لأعداء هذا الحاكم أو ذاك.

في كل شعب وإنسان مساحات خلفية، ولا أقول خفية، وتظهر الفوضى بذيل مسيرة أية أمة، وعلينا أن نتذكر أن الثورة الفرنسية ذاتها نفذت إعدامات ميدانية، لكن ذلك دون تبرير له، يشغل مساحة خلفية يفعلها الهامشيون وما كان ليشوِّه ما نحت إليه ووصلته.

يقول سيوران عن دوافع الكاتب "لا مصادر للكاتب أفضل من أسباب إحساسه بالعار، الكاتب الذي لا يكتشف في ذاته أسبابا للشعور بالخزي أو يتهرّب من هذه الأسباب ليس أمامه إلا السرقة أو النقد"، وأسحب ذاك القول على الإنسان، سواء كان خلف الكاميرا أو أمامها، عندما يبث حقدا باسم النقد، ويذرف دمعا أيضا، كيف للعدسات بيننا أن تتحمل كل ذلك، لعل لها روحاً أيضا، ولربما تحجرت عن روحها لتلبس حيادية قاتلة ليتسنى لها اقتحام الكواليس فتجمدت ناذرة نفسها لرسالة التوثيق، التي لا تقبل التحزب لرأي أو جهة، ولعلها بتجردها تستطيع توصيل ما يحدث أمامها معوِّلةً على أرواحنا خلفها أن تبدع في الرد، العدسات محدبة ولها بؤرة ومحرق إذا جمع أشعة الشمس ولد احتراقا؛ ترى أية مسافة كنا نتخذها أمام العدسات لنحترق حتى الموت، وأيّ موت سرَّب أشعته من بؤرة المأساة للمحارق لنموت حتى بالماء وبصقيع الشتاء، ولعلي لا أشطح إذ أقول إن ذلك يوافق ذائقة العالم المحدثة، ومثلما شد وتر انتباهه التنسيق الصيني للورد بفرادة الوردة الواحدة على جدار ومساحة بيضاء، كان على موتنا الجماعي أن يفرز حالات فردية وصورا فردية لتقول للعالم، ها هو السوري يموت بكل صور الحياة.

ولا بد أن نشكر الحظ فالرؤية والرؤيا بحاجة إلى تأصيل وإلى توثيق أو تبئير لحدث ما، فالشكل الجماعي للموت يدفع باتجاه التبلد وتحويل الدهشة للتحجج الباهت بالأرقام، حتى يأخذ المتفاعلون لغة الترقيم البليدة، لذا فتركيز دائرة الإضاءة الرعناء على موتٍ صغيرٍ ومنفرد قد يستحث شهقة وارتعاشة إنسانية في قلب المتلقي؛ مفردة المتلقي التي وردت عفوية لها عمق يذكر بسطوة المتلقي، التي تلوح للمبدع والكاتب، فلكأننا نبدع موتاً ليتلقى خبره أحد من هذا الكوكب، بينما الموت هو من أبدع فينا وسائله وأشكاله آن كنا نبدع احتمال الحياة وترميم هامشها في متن موت يكرس نفسه كيقين.

نحن شعب يركل بالأقدام، كان لا بد لهذا الشعب من الخروج عن /على النص قليلا لكن خطأنا الفادح أننا شعب أبدع في نص الثورة، منتظرا إنسانية العالم كمتلقٍّ ليقيل عثرتنا واكتشفنا أنه مشدود لمسرحية كنا أحد مشاهدها، فقابلنا بالتصفيق، فجاءت صورة الطفل ورفسة البغل المجرية كما سماها "المطرود"،  ثم الشكل الآخر الواضح لكل متابع لمطبِّلة القناة المصرية.

من هذا وذاك فالعالم مشغول بثقب الأوزون، ولنا أن نرمم أو نفتح الأعين على ثقب كوني في الضمير الإنساني، لا ثقوب نرممها سوى في لوحة الإنسانية الخرقاء؛ كل العالم يرفسنا. ما أسوأ أن تجر البغال عربة الحياة .

(سورية)
المساهمون