رسالة مفتوحة إلى الفيروس المتوَّج

05 ابريل 2020
من ساحة سان مارتن، بوينس آيرس، آذار/مارس 2020 (Getty)
+ الخط -

عزيزي كورونا،

أنت ما زلت تبدو هادئاً حتى بعد مرور شهرين على خروجك إلى الشوارع والإعلان عن نفسك بكل ثقة. كنتَ تعمل بسرعة وصمت قبل أن يكتشفك البشر ويبدأوا التصرّف بحزم مع أنفسهم.

إن شيئاً ما سيّئاً يحدث دائماً، لكن البشر لا يتقبّلون حدوث الأشياء بسرعة، هم يحتاجون إلى بعض الوقت، وعندما ينتبهون في نهاية المطاف يجدون أنهم قد خسروا الكثير، فيحاولون وهم يُحصون خسائرهم أن يجدوا حلّاً بأسرع ما يمكن.

أنا شخصياً لا أعتقد أنك سوف تموت أيها الفيروس المتوّج، ولكن بعد أن ترحل، أو بعد أن تختبئ استعداداً لدورة جديدة، سوف يعيد البشر فتح الأبواب والنوافذ، ويشعرون بالحياة تحت ضوء الشمس التي تشع من أجل الجميع، ثم سوف ينسونك قليلاً، وبعد ذلك تعود لتعلن عن نفسك في شكل جينيّ جديد متطوّر قادر على التكيّف مع جميع اللقاحات الموجودة، آنذاك سوف تثير الرعب مرة أخرى في انتظار لقاح جديد، هكذا دواليك، طبعاً أنا أتمنى أن يصبح البشر بعد كل هذه التجارب قادرين مثلك على التكيّف الحيوي وأن تصبح أجسامهم قابلة لتوليد مناعة فورية ضد نوعك الذكي؛ وعلى كل حال، فإن البشر والفيروسات نوعان لا يختلفان إلى ذلك الحد إذا اعتبرناهما من الكائنات الحيّة التي تعيش في مجال واحد وتحاول السيطرة عليه.

أنت فعلاً سبب أنطولوجي بارع، ولكن الوقت الذي يكتسب فيه البشر صفة التكيّف التلقائي مع مستجدّات الطبيعة الحيوية لم يحن بعد، وما زال بإمكانك أن تلعب على المسرح وحدك فالإنسان بالرغم من كل التكنولوجيات الفائقة التي تحيط به ما زال في عمق مشاعره وانفعالاته كائناً بدائيّاً يرقص حول النار.

لقد كان أسلافك القدامى: الطاعون، ذلك الموت الأسود، والكوليرا والجدري والتيفوئيد، بطيئين تماماً وكانوا يستغرقون عدة أشهر للانتقال من بلد إلى بلد، وإلى بضع سنوات للانتقال من قارّة إلى قارّة، ولكن نوعكَ تعلّم بمرور الوقت وبدأت الوتيرة تتسارع، حتى شهدنا فصولاً متتالية من سلالتك: أيدز وسارس وإنفلونزا خنازير وإنفلونزا طيور وإيبولا، في زمن قياسي، والآن ها نحن البشر نواجهك وحدنا أيها الكوفيد 19.

أقول وحدنا لأن البشر في الحرب مع أسلافك كانوا يستعينون بالآلهة والأنبياء والقديسين، وأحياناً بالسحرة، أما أحفاد البشر في حربهم الحالية فإنهم يقفون وحدهم. يبدو أن الآلهة قالت لهم بعبارة صريحة لا لبس فيها: هذه حربكم وحدكم، اذهبوا أنتم وعلماؤكم فقاتلوا.

هل تعرف؟ هذه نقطة تهمك كثيراً، لم يؤرخ أحد لأول وباء ظهر على سطح الكرة الأرضية وأدى إلى موت الآلاف من البشر، ولكن حرب أسلافك على العالم تركت على كل حال أثراً في النصوص التي قدّسها البشر، وعرفنا أن العالم قد تداولت عليه أجناس من البدائيين. ذاكرتنا المشتركة تقول لنا إن حروبكم على العالم قد ساهمت في تطوّر البشر حيوياً وجعلتهم أكثر تحمّلاً وقدرة على التكيّف مع النّوازل. أنا شخصياً أشكر نوعكم على هذا التفعيل الجيني.

إنني أبحث عن جانب إيجابي في تاريخ البشر الطويل مع الفيروسات. لقد هدّدت البشرية أوبئة وكوارث طبيعية كثيرة شوّشت استقرار الحياة على الأرض، علماً أن الإنسان لم يكن مستقرّاً قط فتاريخه سرديّات متواصلة من الكوارث، لكن مثلما كانت الكوارث الطبيعية تفيد نظام الطبيعة وتجدّده، فإن الأوبئة أفادت النظام الحيوي، وخاصةً بنية الإنسان الذي لا يبدو أنه قادر على التطوّر بنفسه بل يتعرّض للطفرات ويتكيّف معها بمرور الوقت.

هل تصدّق لقد كان الرجل يتميّز بشعر يغطّي جسمه بالكامل، وفكّين أكبر وأطول، وشفتين غليظتين، وقدمين ضخمتين، ويدين كبيرتين مفلطحتين، وكانت المرأة بثديين طويلين، وعجيزة ضخمة، وأظافر طويلة (حسناً هذه الأخيرة ما زالت حتى الآن ويمكنكَ أن تسقطها من الحساب). ثم ماذا حدث؟ بفضل أسلافكَ أيها الفيروس، بالتحالف مع الكوارث الطبيعية، صار الإنسان مشذّباً بعض الشيء، وهذا ما نسميه الآن أناقةً وجمالاً. هل ترى؟ أنت لست شراً في كل الأزمنة.

لكنني أعاتبك قليلاً، فلو كنتَ طوفاناً مثل طوفان نوح، أو بركاناً مثل بركان "مازاما" لكان البشر قد اعتبروك جزءاً من جند الرب، وصرت أيقونة تجسّد الصراع بين الخير والشر، وتنتصر للخير فيزيد تمجيد إله السماء والتهليل باسمه وتنال مرتبة رفيعة في معابدهم. حسناً ولكنك لم تتكلّم بعد بالرغم من أن الآلاف من البشر يموتون وبالرغم من أن حكومات البشر جميعاً تؤمن بإله السماء الذي قد يكون أرسلك في مهمة عاجلة للمزيد من تهذيب صورة الإنسان وجعلها أقل همجيةً.

إن الشوارع الخالية والمدن المهجورة التي لم يرها العالم منذ الحرب العالمية الثانية أصبحت مشهداً يومياً معتاداً، والكثير من الدول نشرت جيوشها في الشوارع والساحات، كأنك قمت بانقلاب عسكري ضد حكوماتها، ليس هذا فقط، أنت سيطرت أيضاُ على أموال وثروات المصانع والشركات التي أغلقت أبوابها في وجهك، عموماً كان الجميع سيغلقون أبوابهم سواء استقبلوك أم رفضوك، أليس كذلك؟ هذا ينبّهنا إلى أن تجارب البشر مع الأوبئة لم تعلمهم بعد ضرورة ابتكار آلية كونيّة جديدة بعيدة عن "رأسمالية المرض" وتجعلهم يتوصّلون إلى نظام صحّي غير خطّي يعتمد على التوزيع الأسّي –أي بالاستفادة من آلية انتشارك أنت بالذات– وأن ينسوا لبعض الوقت غريزتهم الدنيئة للاستثمار في أمراض العالم وكوارثه.

إن البشر الذين يموتون يتحولون في نشرات الأخبار إلى مجرد أرقام تخلو من الدلالة الإنسانية، إنه نوع من الترميز البارد القاسي، وهذا أمر يثير الأسى والحزن، ولكنني أعرف أن شراهة البشر الوحشية للاستثمار في المصائب حوّلتك إلى فيروس سياسي بامتياز، لا، لا تسألني عن التشبّث بالحدود السياسية، فتلك بالطبع مسألة عملية يجب التغاضي عنها لأنها جزء من إدارة الصراع مع الأسطول الكوني المفاجئ الذي تقوده.

لن أتحدّث معك عن "فلسفة النازلة" في التفكير البشري، فأنت لست مرئياً، ونحن البشر لا نتحدث إلا مع من نراهم، ثم إنك لم تتكلّم بعد، ولكن مهلاً أنت مرئيّ بدرجة ما، ولكنني لا أملك مجهراً ضوئياً لكي أتحدث معك، ولهذا السبب أكتب هذه الرسالة التي أرجو أن تقرأها.

أنت حيّ، وأنا كذلك، كما أننا جميعاً –أعني الفيروسات والبشر– مجرّد سكان عاديين لهذا الكوكب الذي لم يوجد من أجل أحد منّا، حسناً هذه نقطة جيدة لمواصلة النقاش.

عندما ظهرتَ للمرة الأولى كنت أعتقد أنك العولمة في صورتها المطلقة، ولكنك في الواقع جعلت الأمور تختلط، فأنت بعد أن اجتحت الحدود في كل مكان، جعلت البشر يميلون إلى التقوقع في جحور كبيرة تسمى دولاً، فرضوا العزلة على أنفسهم، فصلوا بين القارات، ثم بين البلدان في كل قارة، ثم بين المدن في كل بلد، ثم بين الأحياء في كل مدينة، ثم بين البيوت في كل حي، وها هم البشر يعودون إلى الأسرة النووية التي كنا نتحدث عن زوالها القريب فإذا بنا نكتشف أنها الملجأ الوحيد.

والآن: هل قمتَ بذلك لأنك تريد أن تجدّد مشاعرنا وانفعالاتنا البدائية وتحييها من جديد؟ أم أنك ستقضي علينا تماماً لأنك قرّرت أن تعيد تشكيل القارات، ثم تحيل العالم الباريوني إلى فضاء مفتوح يناسبك؟ لكن هل ستكون قادراً على الحياة من دون خلية كبيرة لا تعثر عليها إلا في أجسام البشر والكائنات الحيّة الأخرى (مثل الحيوانات التي "نأكلها"، نعم)؟ ماذا تفضّل تحديداً؟ هل يمكن أن نتفاوض؟

في الفترة الماضية انخفضت نسبة تلوّث الهواء، وصار الماء أكثر نقاءً، واختفى الضجيج، هذه أشياء كنّا نتمنى حدوثها، ولكن في نفس الوقت فُرِض حظر التجوّل، زاد الذعر، انهارت الثقة، انتشر الحجر الصحي، انهارت أسواق المال، تم إغلاق المدارس ودور العبادة والمتاحف والمسارح، وتوقفت الأنشطة الرياضية، وصار اللمس والتقبيل والعناق محرّمات جديدة، وتحولت ممارسة الحبّ إلى علامات سبرانيّة... باختصار: اختلّ روتين الحياة.

أعرف مثل جميع البشر أنك تضاعف الخير، مثلما تضاعف الشر، لكنك لا تأبه للخير أو الشر كما أعتقد، لأنك لست مجرّد فكرة أخلاقية، أنت احتلال، فهل يمكن أن تتوصّلوا معاً - أنتم والبشر - إلى دستور يكفل الحياة بالنسبة للطرفين، أي أن يترك لك البشر خلاياهم فتدخلها وتغادرها كما تشاء وتبقى حيّاً، ويبقوا هم أحياء في الوقت نفسه ويستفيدوا من مزاياك الجينية؟ ماذا عن بروتوكول تعايش محايد بين الطرفين؟ أليست هذه منفعة تبادلية جديرة بالاهتمام؟

ختاماً... مثل رسالتي، فإن خلايا جسمي الضعيف مفتوحة لاستقبالك أيها الفيروس الذي تعبر الأزمنة والقارات، وها أنا الآن أطوف شوارع بروكسل الخالية بحثاً عنك لأنني أعتقد أننا نستطيع الحديث باسم نوعيْنا، النوع البشري والنوع الفيروسي، فهل يمكن للبشر أن يوطّنوك في خلاياهم كما وطّنوا آلاف الفيروسات من عائلتك عبر تاريخهم الطويل، ويجعلوا من هذه الخلايا سطحاً لألعابك التي لا تزعجهم أو تصيبهم بالإنفلونزا القاتلة؟

أتمنّى لك الاستجابة لهذا النداء الذي سينقذ البشر، وينقذ سلالتك الآتية، وداعاً.


* كاتب وباحث ليبي من مواليد 1963 متخصّص في التاريخ والنظريات اللغوية. من إصداراته: "ما قبل اللغة.. الجذور السومرية للغة العربية واللغات الأفروآسيوية" (2008)، و"رحلة حنّون" (2012)، و"معجم تانيت" (2013)، و"أصوات بابل، قراءة جديدة في اللغات العاربة" (2014)، وصدرت نهاية السنة الماضية ترجمته لكتاب "أيام إيمانويل كانط الأخيرة" لـ توماس دي كوينسي. يُصدر منذ 2012 مجلة "لسان العرب" المتخصصة في الدراسات اللغوية.

المساهمون