رسالة إلى المطبّعين

19 فبراير 2019
+ الخط -
أيها المطبّع اللاكريم، لا تحية ولا طيبة. وأتمنى أن تصل إليك هذه الحروف وأنت في أسوأ حال، فقد شاهدتُ، كما شاهد غيري، ابتسامتك وأنت تجلس إلى جانب رئيس وزراء الكيان الصهيوني. هكذا تعلمنا أن نطلق عليه، وسنبقى نطلق عليه، وشاهدتك وأنت تتكالب على تلك الطاولة المشؤومة التي ربما ذهب إليها بعضهم عنوةً، ولكن بعضا آخر كان يحث الخطى إليها، فهو يعتقد أن وارسو سوف تكون طوق النجاة له ولكرسيه مما ارتكبت يداه من إثم.
جاء بعضهم إلى وارسو معتقداً أن أميركا، ومعها ربيبتها المسمّاة إسرائيل، ستنقذهم من الغول الإيراني الذي ما كان له أن يتربع على عرش أربع عواصم عربية، لولا تلك الأميركا التي ذهب إليها بعضهم مستنجداً من خطر الفرس، تلك أميركا التي كانت ذات يوم تسمح لمليشيات إيران أن تكبر وتتمدد في العراق، وقبلها في لبنان، وبعدهما في سورية وآخرها في اليمن.
كان الغول الإيراني الذي صار في نظر بعضهم أخطر من الغول الصهيوني يعيث فساداً في عاصمتي بغداد. ويومها كان حتى إعلام الخائفين من هذا الغول يطبل له، بل ساند، عن درايةٍ وقصد وتعمّد، كل مشاريع إيران وحكوماتها الخبيثة التي نصبها على العراق، حتى كانت قناة العربية التي ليس لها من اسمها نصيب تسمّي كل مقاومة للمحتل الأميركي والإيراني، إرهاباً، بل زادت وقاطعت حتى التيارات السياسية الرافضة الاحتلال، فهي، بنظر "العربية"، تياراتٌ لا تريد للعراق أن ينعم بحرية أميركا. وما زالت تلك المقاطعة قائمة، علماً أن هذه التيارات 
السياسية كانت أول من حذّر من خطر إيران، لا على العراق فحسب، وإنما على دور الجوار العربي، وأولها السعودية.
اليوم يريدون أن يقنعوا أنفسهم، ويقنعوا من خلفهم بأن التحالف مع أميركا وربيبتها إسرائيل هو الخيار الوحيد لمواجهة خطر التغوّل الإيراني، وفاتهم، أو ربما أرادوا أن يفوتهم ذلك، وهو أن أميركا بجحفلها، براً وجواً، كانت تقاتل إلى جانب مليشيات إيران في العراق طوال سنوات، بحجة مكافحة الإرهاب، وكانت تلك الطائرات تحمي من تصفهم أميركا إرهابيين.
لا أحد يناقش أو يجادل في خطر إيران، فقد بلغ هذا التغلغل والتوغل، والاستحواذ حتى، مبلغاً عظيماً، وصار لطهران الكلمة الفصل في تعيين أو توزير من تشاء ومتى تشاء في العراق ولبنان وسورية، ولليمن قصته الأخرى التي ما كان لها أن تنضم عاصمته إلى عواصم بني فارس، لولا ذاك الاستخفاف العربي، والخليجي خصوصا، بهذا الجار الفقير الذي لو قيّض له أن يكون جزءا من منظومة مجلس التعاون الخليجي، لما كان حاله كما نعيشه اليوم. ولكن هذا الخطر الإيراني صُنع بيد الخائفين اليوم منه. امتد هذا التغول الإيراني بغياب أنظمةٍ عربيةٍ تمتلك أدواتها في مقاومة أي تدخلٍ خارجي، أو مجابهته، ولكم في العراق مثالٌ، يا أولي الألباب.
ذات احتلال، وتحديداً في العام 2003، عندما جاءت أميركا بجحفلها لتغيير النظام، واحتلال أرض الرافدين، ارتأت بلاد العرب أوطاني أن تكفّ قدمها عن التدخل، أو رسم مستقبل ومسار عملية سياسية للعراق الجديد، كما كانت تطلق عليه أميركا، بل إن إعلام البترودولار كان يبشر بعراقٍ خال من الديكتاتورية، خالٍ من العنف، بلا أنياب، بلا تسليح، بلا تصنيع عسكري، بلا جوع وفقر ومرض، وراح يطبّل للغزاة، على اختلاف ألوانهم وعناوينهم، في وقتٍ كانت إيران تزحف ببطء ودراية، لأنها تعرف ما تريد، واليوم عادوا يتباكون على اللبن المسكوب.
وفي سورية، كانت الأمور أكثر فجاجةً، فلقد اقترح أمير قطر السابق، الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، إرسال قوات عربية إلى سورية لحماية المدنيين، والحيلولة دون فتك النظام المجرم بشعبه، غير أن السعودية، ومعها بعض دول العرب، صمّت آذانها، وارتأت أن تلجأ لأميركا، فهي الوحيدة التي يثق بها بعضهم، وهي الوحيدة التي يمكن أن تستأمن على أرض الشام، كما استأمنها بعضهم على أرض الرافدين، فكان ما كان، دخلت إيران بمليشياتها وأموالها، وحمت 
النظام من قبضة الشعب، بل إن بعضهم، ويا للمفارقة، راح يتآمر على الثورة السورية، ويفتح، بين كل فصيل وفصيل مسلح، فصيلا مسلحا آخر، فضاعت ثورة الشاميين الأصلاء بتآمر العرب قبل غيرهم.
جاءت أميركا اليوم مستغلة حاجة بعضهم، وخصوصا السعودية، وولي عهدها محمد بن سلمان، لتقول إنها قرّرت محاربة طهران ونظامها الإرهابي، فهي تشترك مع غالبية الدول العربية بهذا الهدف، وطبعا معهم الربيبة إسرائيل. وكالعادة، صدق أو أظهر أنه قد صدّق، بعض العرب، فجلسوا إلى طاولة وارسو، ومعهم بنيامين نتنياهو، مدشّنين عهداً جديداً من التطبيع الذي كان يتم خلف الأبواب، ليكون هذه المرّة علنياً وأمام الكاميرات.
نعم، قد تذهبون إلى أبعد من التطبيع المجاني مع دولة الكيان الصهيوني، وقد توقّعون على اتفاقياتٍ أخرى وأخرى، بل وقد توقعون اتفاقية سلام بالمجان، وقد يظهر نتنياهو منتشياً بالسلام على بعضكم. ولكن اعلموا، وليعلم من خلفكم نتنياهو، أن لا علاقة لنا، نحن الشعوب، بما توقعون وبما تتفقون مع هذا الكيان. كل ما تقومون به إنما يعبر عنكم، ويمثلكم أنتم فقط، ولا يُلزمنا بشيء، فنحن، وكما كانت فلسطين بالنسبة لنا، ستبقى هي قضية العرب المركزية التي لا نساوم عليها، فما كان لبغداد أن تضيع وتلحقها دمشق وصنعاء وقبلهما بيروت، لو أن تلك الأنظمة كانت نابعةً من الشعب، بل ما كان لفلسطين أن تبقى أسيرة الغاصبين، لو أن تلك الأنظمة كانت تمثل شعوبها.
96648A48-5D02-47EA-B995-281002868FD0
إياد الدليمي
كاتب وصحافي عراقي. حاصل على شهادة الماجستير في الأدب العربي الحديث. له عدة قصص قصيرة منشورة في مجلات أدبية عربية. وهو كاتب مقال أسبوعي في عدة صحف ومواقع عربية. يقول: أكتب لأنني أؤمن بالكتابة. أؤمن بأن طريق التغيير يبدأ بكلمة، وأن السعادة كلمة، وأن الحياة كلمة...