رسائل لم تصل بعد... إلى صديقة

03 يناير 2020
+ الخط -
صديقتي العزيزة!
أرسل لك هذه الرسالة وأتمنى أن تقرئيها حتى النهاية. قد تتساءلين "من هذا الذي يراسلني دون سابق معرفة؟" أعرف شعور الفتيات وهن يستهجنّ تصرفات بعض الشباب الطائش، وخصوصًا عندما يختلقون الرقة والرومانسية الزائدة لاستمالة إحداهن. بالمناسبة، لست منهم طبعًا .. أحلف لكِ بأنني لست منهم.

قد تسألين .. ومن أنت إذن؟ أنا لست سوى عابر يحب أن يكتب رسائل إلى غرباء لا يعرفونه؛ وذلك حتى لا يُحرج من ردة فعلهم عندما يتوغل معهم في سفاسف الأمور. لا داعي لأن تسألي عن سبب اختياري للغرباء، لأنني سأخبرك بأنهم أكثر مصداقية ممن نعرفهم عن قرب.. أقسم أنني أشعر بالراحة عندما أكتب إلى غريب أكثر مما عندما أكتب إلى صديقٍ أعرفه منذ سنين، إن من تعرفينهم عن قرب يا صديقتي يشعرونك بالخجل من نفسك إذا أردتِ أن تبوحي لهم ببعض تفاهاتك اليومية، من تعرفينهم عن قرب يجبرونك على أن تلتزمي بقواعد وطقوس معينة، لذا أحب الغرباء.

بالمناسبة، الورق أجمل غريب بالنسبة لي، ياه ما أجمل التعرف إلى الغريب منها. قبل أن أنام آخذ إحداها وأقرأها بتمعّن وهدوء، فأنا أقول في نفسي "بما أنني أكتب للغرباء فحتمًا هناك من كتب لغريبٍ مثلي من قبل"، ولذا أحاول قراءة رسائلهم بهدوء؛ فبهم أستعين على هذا العالم الغريب الذي لا يكاد يُهدي أملًا بالحياة لفراشةٍ اقتربت من شعلة شمعة فاحترقت وماتت.
قفز إلى عقلي سؤالٌ وأنا أكتب هذه الرسالة "لماذا تحب الفراشات النار.. ألا تعلم أنها ستموت؟"، ربما تعلم وهذا ما يغريها حتى تقترب. أذكر عندما كنت صغيرًا وأنا أراقب الفراشات وهن يتسابقن للوصول إلى الشعلة كان هذا السؤال يحيرني كثيرًا.. لكن ألا ترين أننا نشبههن في هذا الموقف؟ أرجوكِ، لا تسأليني عن أماكن الشبه بيننا، وأرى أن تحزري بنفسك.


أرى أن أعود إلى ما كنت أحدثكِ عنه أيتها الصديقة، ودعيني أخبركِ الآن عن أبي. عندما كنت صغيرًا كنت أكتب في دفاتري المدرسية عن حبي لأبي، وعن مدى شجاعته وقوته. كنت أكتب أن أبي قوي لدرجة أنه يحملني فوق ظهره عندما نذهب إلى المزرعة، بخلافي أنا الضعيف الذي ما كنت أستطيع القيام بذلك معه. أذكر أنه كان إذا ضربني أحدهم أهدده بأنني سأخبر أبي وسيضربه أكثر مما ضربني؛ كنت أهدد الجميع بأبي لأنه كان بطلي الذي سيأتي لنصرتي ولن يخذلني مهما حصل. دخلت المدرسة وتعلقت بأبي أكثر، فكنت أنتظر الراحة المدرسية حتى أعبّر عن حبي له بجمل مبعثرة في دفتري وأحيانًا تافهة وغير مرتبة، في الحقيقة أحب تلك الكلمات المبعثرة، خصوصًا عندما تنبع من القلب، أحب تلك التعبيرات التي تنعجن بالواقع وتتدفق من أعماق الروح حتى وإن كانت تثقل كاهلي.

أيتها الصديقة! أتساءل دائمًا، لماذا لا نكتب إلى صديقٍ وكأننا نكتب إلى العالم أجمع! أليس إنسانًا واحدًا قد يكون في نظر أحدهم أغلى من هذا العالم؟ أنا مثلًا عندما كنت صغيرًا كنت أرى أن أبي هو كل عالمي، لدرجة أنني كنت أحاول ألا أفكر في أمر الموت؛ حتى لا أتخيل أنه سيأتي في يومٍ من الأيام ويختطف أبي من بين يديّ، ولكنه توفي مع الأسف. أحلف لكِ أنني عندما كنت أفكر في موت أبي كنت أدعو الله أن أموت معه بنفس اللحظة؛ حتى لا أبقى يتيمًا بلا ذلك العالم الذي كان يسكنني. كنت لا أريد أن أموت أنا أيضًا قبل أبي؛ حتى لا يتألم لموتي هو أيضًا، أردت أن أعيش معه وأموت معه. أذكر أنه بعد أن توفي أبي بأيام اصْطَحَبَتني أمي نحو الوادي، فسألتها "لماذا مات أبي! أليس فلان وفلانة أكبر منه عمرًا؟ حتمًا هناك خطأٌ ما"، لقد كنت أقول لأمي إنها تكذب عليّ بخبر موت أبي؛ وذلك لأنه كان عالمي ومع ذهابه شعرت بأن العالم معه ذهب وانتهى. لم أكن أدرك مدى حزن أمي حينها على فراقه، ولكنني كنت أيضًا أريد أن أعرف سبب موته على خلاف غيره ممن هم أكبر منه سنًا. ملّت أمي من تكراري لسؤالي عن سبب موت والدي على خلاف البقية، ورأت أن تغيّر الإجابة، لذا قالت إنه سافر إلى مكانٍ بعيدٍ جدًا وعودته إلينا ستأخذ وقتًا طويلًا. انفرجت أساريري وقلت لها بفرح: إذًا لنبدأ السفر يا أمي حتى نصل إليه بشكل أسرع. نزلت من عينيها دموع حزن مسحتها بكفها وهي تقول: نحن أيضًا نسافر يا ولدي وسنلتقي يومًا.

لم أعد أستطع الكتابة أكثر يا صديقتي ودعيني الآن أبكي أبي، وليكن في علمك أنني عندما أشعر بالحاجة إلى الكتابة سأفعل .. إلى اللقاء.
دلالات
عبد الرحمن الآنسي
عبد الرحمن الآنسي
مؤلف وروائي يمني مقيم في تركيا، له روايتان ومجموعة قصصية، وينشر في عدد من الصحف. يعبّر عن نفسه بالقول "اختلف معي لأراك، فقد مللت من رؤية صورتي في المرآة كل يوم".