أما الضربة الثانية التي كانت أيضاً متوقعة فهي عزل 32 قاضياً بتهمة المشاركة في صياغة بيان ضد الاستيلاء على السلطة خلال أحداث 30 يونيو/ حزيران و3 يوليو/ تموز 2013، في ما يعرف بقضية "بيان قضاة رابعة"، وهي القضية التي كان قاضي التحقيق المختص بها قد وجه أيضاً أصابع الاتهام فيها إلى هشام جنينة، بالإضافة لوزيري العدل السابقين أحمد مكي وأحمد سليمان، ونائب رئيس الجمهورية الأسبق محمود مكي.
اقرأ أيضاً: "عزل جنينة".. انتكاسة لملف الأجهزة الرقابية في مصر
وتأتي الضربة المزدوجة لتؤكد استمرار التحالف بين الدائرة المخابراتية-الرقابية التي شكلها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لإدارة المشهد السياسي، وبين التيار المناوئ للاستقلال داخل القضاء المصري، على الرغم من إقالة وزير العدل السابق أحمد الزند، والذي كان يبدو على رأس هذا التيار، وكان يعتبر المحرك الأول للبلاغات ضد جنينة وملاحقته سياسياً وإعلامياً بأذرع النظام.
كما تؤكد الضربة النية المبيتة من نظام السيسي للتنكيل بجنينة سياسياً وإعلامياً وقضائياً، واتهامه وحبسه، وليس فقط إقالته أو التخلص منه. وتؤكد مصادر قضائية مقربة من جنينة (تنتمي لتيار الاستقلال) أنه تقدم باستقالته من منصبه للسيسي ثلاث مرات، مرة عند توليه رئاسة الجمهورية، ومرة ثانية عندما تفاقم الهجوم الإعلامي ضده عندما هاجم وزير العدل الجديد آنذاك أحمد الزند لوجود مخالفات في سجلاته كرئيس لنادي القضاة، ومرة ثالثة بعدما أصدر السيسي القانون الذي يسمح له بعزل جنينة في منتصف يوليو/ تموز الماضي. وتوضح المصادر أن رد السيسي في كل مرة كان أنه "يحتاج لجنينة، ويحتاج إلى شخص بنزاهته واستقلاله"، وأنه كان يكيل المديح له، ثم ما يلبث جنينة ويجد حملة مستعرة أخرى ضده في الصحف المقربة من النظام.
وكان الزند وعدد آخر من القضاة خلف إصدار قانون إقالة جنينة. كما كان الزند، بالتعاون مع دائرة السيسي، خلف الدفع بمساعده هشام بدوي، المعروف بالخصومة الشديدة مع جنينة – تحديداً - كنائب له في الجهاز المركزي للمحاسبات. كذلك كانت دائرة السيسي خلف تحريك البلاغات والهجوم الإعلامي على جنينة بعد تصريحه بأن تكلفة الفساد في الدولة 600 مليار جنيه، حيث هرع السيسي بعد هذا الهجوم لتشكيل لجنة تقصي الحقائق التي دانت جنينة.
اقرأ أيضاً: خاطف الطائرة المصرية سبق اعتقاله ومدان في 16 قضية
كل هذه الأحداث المتعاقبة والمتسارعة تؤكد أن المخطط كان مبيتاً، وأنه لم يكن محض صدفة، أو وليد تصريحات عرضية لجنينة، إذ كان الرئيس الأسبق للجهاز المركزي للمحاسبات جودت الملط يصرح بأمثالها مراراً وتكراراً في مجلس الشعب على مرأى ومسمع من وسائل الإعلام في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك.
رسالة صمت
غير أن معاقبة جنينة على مثل هذا التصريح، ووصول الأمر إلى حد استدعائه للنيابة وتوجيه اتهام له بـ"الاحتفاظ بأوراق ومستندات تخص جهة عمله" وبأنه "يقدر حجم الفساد رغم أنه ليس الجهة المنوطة بذلك"، تمثل جميعها رسائل من دائرة السيسي لجميع المسؤولين، بأن الصمت هو الحل الوحيد للاستمرار في المنصب في ظل هذا النظام.
وتؤكد مصادر حكومية بمجلس الوزراء يبدو أنها تشعر بالضيق مما يحدث في كواليس تسيير أمور الدولة "أن السيسي لا يطيق أن يكون لأي مسؤول بالدولة ظهور إعلامي يكشف استقلالية منصبه، أو أنه يتحرك من تلقاء نفسه دون توجيهات، ويريد أن يبدو الجميع وكأنهم يسبحون في فلكه".
وتربط هذه المصادر بين عزل جنينة وبين توجيهات السيسي للوزراء بأخذ إذن للحديث في وسائل الإعلام من رئيس الوزراء شخصياً، وبين تشكيل لجنة مركزية تابعة للدائرة المخابراتية-الرقابية للتحكم في ما تبلغه الجهات الحكومية من معلومات لوسائل الإعلام، وبين تولي صحافيين محسوبين على النظام ومؤيدين له مناصب المتحدثين الرسميين باسم هذه الجهات، وكذلك بين تعيين مدير جديد لصندوق تبرعات نظام السيسي المسمى "تحيا مصر" لمجرد أن تصريحات المدير السابق لم ترق لمدير مكتب السيسي.
وتؤكد المصادر أن جميع المسؤولين تلقوا قرار عزل جنينة بقلق بالغ. وعلى الرغم من أنهم يدركون أنه مستهدف منذ اللحظة الأولى للنظام الحالي، وعلى الرغم من أنه لا يحظى بشعبية بينهم، إلّا أن طريقة إقالته تنطوي على إهانة بالغة "لأنها ليست مرتبطة بعمل خاطئ، أو مخالفة قانونية، أو ثبوت اتهامه في أي قضية، أو لتورطه في فساد، بل بسبب تصريحات صحافية".
ويبدو أن رسالة الصمت وصلت على ما يرام لجهاز المحاسبات في اليوم الأول بعد عزل جنينة. فوفقاً لمصادر بالجهاز، أمر هشام بدوي، القائم بأعمال رئيس الجهاز، بمصادرة جميع المستندات والوثائق التي كانت بحوزة مكتب جنينة ومدير مكتبه والمسؤولين المقربين منه وكذلك القيادات المعروفة بعلاقتها الوطيدة بجنينة، وتم تشكيل لجنة لجردها والتحفظ عليها.
وكان جهاز المحاسبات منذ عهد حسني مبارك مصدراً خصباً للتقارير الصحافية عن حجم وتكلفة الفساد في جميع أجهزة الدولة، وكان نظام مبارك يتعامل مع هذه التقارير ببساطة. كذلك كان بعض الوزراء، كيوسف بطرس غالي (تولى وزارة المالية) يردون عليها بالأرقام، وتواصل الأمر في عهد جنينة خلال فترة الرئيس المعزول محمد مرسي وأول عامين من فترة السيسي.
ويوصد نظام السيسي بقرار عزل جنينة خزانة تقارير الفساد والمخالفات بغير رجعة، محولاً بذلك الجهاز المركزي للمحاسبات إلى جهاز رقابي ذي طابع سيادي، باعتباره يتبع رئيس الجمهورية مباشرة. وتتوقع المصادر الرقابية أيضاً أن يتم التعامل مع الجهاز خلال الفترة الحالية بصرامة وانغلاق أجهزة أخرى ذات طابع أمني واستخباراتي، كهيئة الرقابة الإدارية التي كان لها هي أيضاً دور في الإطاحة بجنينة.
الرقابة الإدارية.. ذراع السيسي الجديدة
يحرص السيسي منذ صعوده إلى السلطة على تعزيز دور ومكانة هيئة الرقابة الإدارية التي عانت عهوداً من التهميش، واعتبار عملها مكملاً لدور المباحث الشرطية. ويعتبر أنه يمكنه استخدامها لتحقيق أهدافه إذا أعاد سيطرة العنصر العسكري عليها، فأسند رئاستها لصديقه القديم محمد عرفان، وهو ضابط سابق بالمخابرات الحربية، ونقل إليها عدداً من ضباط المخابرات الحربية والمخابرات العامة، محاولاً إعادة هيكلها إلى ما كانت عليه أيام رئيسها الأسبق ومعلمه محمد فريد التهامي ورئيسها الأسبق اللواء هتلر طنطاوي (الاثنان في عهد الرئيس المخلوع مبارك). وفي المرحلة الثانية ضم السيسي عدداً من عناصر الرقابة الإدارية إلى دائرته المخابراتية-الرقابية التي يديرها بشكل شخصي مدير مكتبه عباس كامل، ثم منحها سلطات واسعة في المراقبة والتحري بصورة أوسع مما كانت عليه في العقود الأربعة السابقة، إلى الحد الذي جعل الرقابة الإدارية إحدى سلطات التحري الرئيسية في قضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني على الرغم من أن دورها الأصلي هو مراقبة الفساد الحكومي.
وسيراً على هذا النهج، أطلق السيسي العنان لصديقه عرفان وقيادات الرقابة الإدارية لإجراء التحريات عن جنينة وعمله. وكان عرفان على رأس لجنة تقصي الحقائق التي دانت جنينة واتهمته بخداع الرأي العام، وطرحت تساؤلات عما وصفته باستفادة جهات خارجية من التصريحات أخذاً بالاعتبار أن التقرير الذي تحدث جنينة من واقعه أعده جهاز المحاسبات بالتنسيق مع جهات أجنبية. عقب ذلك، كلّف عرفان مكتبه بإعداد تحريات عن جنينة، وأرسلها إلى نيابة أمن الدولة العليا، وتهدد باتهامه بالتخابر مع دولة أجنبية. ووفقاً لمصادر قضائية، جاء في التحريات، أنّ "جنينة استغل منصبه للحصول على أوراق وصور وأصول مستندات، والاحتفاظ بها، والتعامل مع جهات أجنبية تحت ستار التعاون على إنجاز تقارير عن حالة الفساد في مصر".
عقوبات مشددة في انتظار جنينة
يبدو أن النظام الحاكم في مصر لا ينسى أن جنينة هو المسؤول الوحيد الذي عينه الرئيس المعزول محمد مرسي وبقي بحكم الدستور فلم يتمكن السيسي أو سلفه عدلي منصور من إقالته، بالإضافة إلى الشعبية والقبول الكبير الذي يتمتع بهما الرجل نتيجة مصداقيته العالية ونزاهته المشهودة، وجرأته في فضح الفساد وانتقاد أجهزة ظلت فترة طويلة عصية على الانتقاد كأندية القضاة والمحاكم ووزارة الداخلية.
ويواجه جنينة حالياً احتمالات بتوجيه اتهامات عدة خطيرة له، أبرزها السابق ذكره عن التعامل بوثائق رسمية مع جهات أجنبية، وهو ما اتهمته به الرقابة الإدارية، وتصل عقوبته إلى السجن المؤبد. يضاف إلى ذلك، الاتهام المعروف بالإدلاء بتصريحات تعرض الدولة واقتصادها للخطر، وهي تهمة تصل عقوبتها إلى السجن 3 سنوات. ومن بين الاحتمالات أيضاً اتهامات بالتعدي قولاً وسب وقذف وزير العدل السابق أحمد الزند وأندية القضاة وجهات حكومية، وتصل عقوبتها إلى السجن 5 سنوات.
واتساقاً مع بدء التحقيق معه، قررت نيابة أمن الدولة العليا منع جنينة من السفر، ليصبح بذلك أول مسؤول رقابي تتخذ ضده مثل هذه الإجراءات الاحترازية، على الرغم من عدم اتهامه رسمياً في أي قضية، وكون جميع البلاغات والدعاوى المقدمة ضده رهن التحقيق المبدئي حتى الآن.
اقرأ أيضاً ناشطون:عزل #هشام_جنينة لصالح ابن السيسي أم لتغطية مقتل ريجيني؟