08 نوفمبر 2024
رسائل ترامب إلى الفلسطينيين
لعله من نافلة القول التذكير أن القيادة الرسمية الفلسطينية كانت قد وضعت، منذ انطلاق مفاوضات التسوية مع إسرائيل، أواخر عام 1991، كل أوراقها التفاوضية في السلة الأميركية، محيّدة في ذلك حتى مرجعية منظمة الأمم المتحدة، وهذه بحد ذاتها ليست حليفاً وثيقاً للفلسطينيين. لم تكن القيادة الرسمية لمنظمة التحرير، ولاحقا للسلطة الفلسطينية، منذ أواخر عام 1994، جاهلة بالانحياز الأميركي المطلق والأعمى للدولة العبرية، لكنها، أي تلك القيادة الرسمية، اختارت التعامي عن هذه الحقيقة، متوهمةً أنها قادرةٌ على التذاكي عليهما، أو على أن تُحدث فصاما ذا معنى بينهما. الأدهى أن تلك القيادة توهمت، وما زالت، أنها إن قدمت أوراق اعتمادها أميركياً، وفق اشتراطات الأخيرة، ووفق اشتراطات إسرائيلية كثيرة، كالتعاون الأمني، وتقديم التنازلات الجوهرية تلو التنازلات، فذلك سيؤهلها أن تكون شريكاً تفاوضياً في "صنع السلام" الذي كان الرئيس الراحل، ياسر عرفات، يصفه بـ"سلام الشجعان"، وهو لم يكن كذلك، ولن يكون كذلك يوماً.
وهكذا، فقد كان أن انتهينا إلى حيث نحن اليوم. فاتفاق أوسلو عام 1993 جاء وفق المقاسات الإسرائيلية بالتمام والكمال، حيث إنه ألغى الحق الفلسطيني من حيث المبدأ، على الأقل عبر الاعتراف بـ"حق إسرائيل في الوجود"، في تشريعٍ لخزعبلاتها التوراتية والتاريخية. ثمّ إنه حوّل الكفاح الفلسطيني العادل إلى مساوماتٍ رخيصة، بالشبر والمتر، على الوطن المحتل، فضلاً عن أنه جعل من السلطة الفلسطينية، التي وُلدت من رحم "أوسلو"، أداةً طيعةً من أدوات ترسيخ الاحتلال الصهيوني، في الوقت الذي تقوم فيه، أي السلطة، بدورٍ مركزي في بيع الوهم للشعب الفلسطيني، بأن ثمة إمكانية أن يُفضي هذا الواقع البئيس إلى "دولةٍ فلسطينية"، بشكل ما. وإذا كان عرفات قد أدرك ذلك متأخراً، ودفع حياته ثمناً لمحاولة الانقلاب على الوهم الذي صنعته قيادته، فإن من جاء بعده، ما زال يبيع الوهم ويسوّقه. ويكفي للتدليل على ذلك أن يلقي المرء نظرةً سريعةً على البرنامج السياسي لحركة فتح، المنبثق عن مؤتمرها السابع المنعقد أواخر الشهر الماضي.
ضمن السياق السابق، يغدو انتخاب دونالد ترامب للرئاسة الأميركية، بانحيازه المطلق المعلَن لإسرائيل، مجرّد عارضٍ لأزمة، وليس الأزمة بحد ذاتها. والدليل أن باراك أوباما جاء إلى
الرئاسة مطلع عام 2009 بوعودٍ كثيرة للفلسطينيين، مُمنياً إياهم بدولةٍ، وهو حاول فعلا الضغط على إسرائيل في موضوع المستوطنات التي تلتهم الضفة الغربية والقدس المحتلتين، ولكنه هو نفسه من أعلن فشله أمام عناد إسرائيل، وحنى الرأس أمام إهانات رئيس وزرائها، بنيامين نتنياهو. وقد انتهى الحال بأوباما أن يحارب من أجل أن يكون هو الرئيس الذي يحظى بـ"شرف" رفع قيمة المساعدات العسكرية الأميركية السنوية للدولة العبرية من 3.1 مليارات دولار سنوياً إلى 3.8 مليارات سنوياً، بقيمة 38 مليار دولار للسنوات العشر المقبلة. بل إن مناشدات الرئيس الأسبق، جيمي كارتر، له، بأن يعترف بالدولة الفلسطينية قبل تسلّم ترامب، رسمياً، الرئاسة، ذهبت أدراج الرياح.
اليوم، تستفيق القيادة الرسمية الفلسطينية على الواقع المُرِّ الذي صنعته هي بأيديها. إنها تحصد الشوك الذي زرعت. غير أن المشكلة أننا سنحصد معها، وسندمي أيدينا، كارهين غير راغبين. يتأهب أوباما، بشعاراته البرّاقة، ووعوده الكثيرة، للمغادرة، في حين يُعِدُّ ترامب العدة ليحل مكانه، محذّراً من فوضى عالمية، في الشرق الأوسط وآسيا وأوروبا، أو إن شئت فقل في أميركا والعالم. المهم هنا هو السياق الفلسطيني. فبعد برهة قصيرةٍ من الوهم الذي اعتادت القيادة الرسمية الفلسطينية تَجَرُّعَهُ، وتجريعنا إياه معها، خصوصاً بعد أن كان ترامب قد قال، في الحملات الانتخابية، إنه سيكون "محايداً" في تعاطيه مع "الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني"، وإنه هو من سيصنع "السلام" بينهما، فإنه اليوم يكشف حقيقة مفهومه للحياد والسلام. أول رسالةٍ يؤكدها ترامب أنه لن يكون "محايدا" بين الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي. وقبل أن تبدأ القيادة الرسمية الفلسطينية باللطم والعويل، فإن السؤال الذي ينبغي أن تجيب عليه: ومتى لم تكن أميركا أصلا منحازةً لصالح إسرائيل؟ إنه السؤال الذي يعرف الجميع إجابته، بما في ذلك القيادة التي تغابت دوماً، وكأنها مصدومة من ذلك الانحياز.
وفي سياق النسق المنحاز أميركياً لصالح إسرائيل، فإن الرسالة الثانية التي بعث بها فريق ترامب الانتقالي، مفادها بأن الأخير قد يُقدم فعلاً على ما لم يقم به من سبقه من رؤساء، وهو نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس. فمنذ إقرار الكونغرس قانون نقل السفارة الأميركية إلى القدس عام 1995، متجاوزاً معارضة الرئيس حينها، بيل كلينتون، لم يجرؤ رئيسٌ أميركي على فعل ذلك، وتحصنوا دوماً وراء بندٍ في القانون يتيح للرئيس تعطيل القرار ستة أشهر إذا ما رأى في ذلك مصلحةً قومية أميركية. التعطيل الأخير أوقعه أوباما أواخر الشهر الماضي، وينتهي أواخر مايو/أيار 2017، ويبدو أن ترامب لن يجدّده. وبعيدا عن تحذيرات "كبير المفاوضين" الفلسطينيين، صائب عريقات، إن هذا القرار، إن أمضي، "سيدمر عملية السلام برمتها"، فإن هذه القيادة التي رهنت كل أوراقها للأميركيين لا تملك هوامش مناورة واسعة، فوجودها هي نفسها مرتبط بالقبول بالسقوف الأميركية - الإسرائيلية، لا بتحديها والتمرد عليها.
الرسالة الثالثة غير المبشرة من إدارة ترامب تمثلت بمرشحها لمنصب السفير في الدولة
العبرية، وهو ديفيد فريدمان. وهذا صهيوني أميركي متطرّف، ويرأس منظمةً لدعم مستوطنة صهيونية قرب رام الله في الضفة الغربية. ومباشرةً بعد ترشيحه للمنصب، صرّح فريدمان بأنه سيقود "السفارة الأميركية من العاصمة الأبدية لإسرائيل، القدس"، وإن مواقف إدارة ترامب نحو "عملية السلام ستستهدي بما تريده إسرائيل"، وإذا كانت إسرائيل لا تريد دولة فلسطينية، فإن الولايات المتحدة لن تضغط عليها في ذلك. تنضاف هذه التصريحات إلى مواقف أخرى متطرّفة سابقة للرجل مثل أنه من حق إسرائيل ضم الضفة الغربية، وتشريع المستوطنات الصهيونية فيها. ويبدو أن هذه التصريحات والمواقف المتطرّفة الصادرة عن معسكر ترامب لامست صلف متطرّفين في وزارة نتنياهو، كوزير التعليم، نفتالي بنيت، الذي كتب أن "زمن الدولة الفلسطينية قد انتهى".
باختصار، واضح أن سنوات ترامب ستكون، على الأغلب، عصيبةً على أميركا والعالم، بما في ذلك على الشرق الأوسط وفلسطين، غير أنه في السياق الفلسطيني، كانت السياسات الأميركية دوما عصيبة، وكل ما في الأمر أنه تتفاوت درجة الحدية والصعوبة بين إدارةٍ وأخرى. كانت أميركا الرسمية دوما منحازةً لإسرائيل، وستبقى دومًا منحازة. ليست هذه المشكلة الحقيقية بقدر ما أن المشكلة هي في قيادة رسمية فلسطينية تمارس التغابي في تعاملها مع هذه الحقيقة.
وهكذا، فقد كان أن انتهينا إلى حيث نحن اليوم. فاتفاق أوسلو عام 1993 جاء وفق المقاسات الإسرائيلية بالتمام والكمال، حيث إنه ألغى الحق الفلسطيني من حيث المبدأ، على الأقل عبر الاعتراف بـ"حق إسرائيل في الوجود"، في تشريعٍ لخزعبلاتها التوراتية والتاريخية. ثمّ إنه حوّل الكفاح الفلسطيني العادل إلى مساوماتٍ رخيصة، بالشبر والمتر، على الوطن المحتل، فضلاً عن أنه جعل من السلطة الفلسطينية، التي وُلدت من رحم "أوسلو"، أداةً طيعةً من أدوات ترسيخ الاحتلال الصهيوني، في الوقت الذي تقوم فيه، أي السلطة، بدورٍ مركزي في بيع الوهم للشعب الفلسطيني، بأن ثمة إمكانية أن يُفضي هذا الواقع البئيس إلى "دولةٍ فلسطينية"، بشكل ما. وإذا كان عرفات قد أدرك ذلك متأخراً، ودفع حياته ثمناً لمحاولة الانقلاب على الوهم الذي صنعته قيادته، فإن من جاء بعده، ما زال يبيع الوهم ويسوّقه. ويكفي للتدليل على ذلك أن يلقي المرء نظرةً سريعةً على البرنامج السياسي لحركة فتح، المنبثق عن مؤتمرها السابع المنعقد أواخر الشهر الماضي.
ضمن السياق السابق، يغدو انتخاب دونالد ترامب للرئاسة الأميركية، بانحيازه المطلق المعلَن لإسرائيل، مجرّد عارضٍ لأزمة، وليس الأزمة بحد ذاتها. والدليل أن باراك أوباما جاء إلى
اليوم، تستفيق القيادة الرسمية الفلسطينية على الواقع المُرِّ الذي صنعته هي بأيديها. إنها تحصد الشوك الذي زرعت. غير أن المشكلة أننا سنحصد معها، وسندمي أيدينا، كارهين غير راغبين. يتأهب أوباما، بشعاراته البرّاقة، ووعوده الكثيرة، للمغادرة، في حين يُعِدُّ ترامب العدة ليحل مكانه، محذّراً من فوضى عالمية، في الشرق الأوسط وآسيا وأوروبا، أو إن شئت فقل في أميركا والعالم. المهم هنا هو السياق الفلسطيني. فبعد برهة قصيرةٍ من الوهم الذي اعتادت القيادة الرسمية الفلسطينية تَجَرُّعَهُ، وتجريعنا إياه معها، خصوصاً بعد أن كان ترامب قد قال، في الحملات الانتخابية، إنه سيكون "محايداً" في تعاطيه مع "الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني"، وإنه هو من سيصنع "السلام" بينهما، فإنه اليوم يكشف حقيقة مفهومه للحياد والسلام. أول رسالةٍ يؤكدها ترامب أنه لن يكون "محايدا" بين الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي. وقبل أن تبدأ القيادة الرسمية الفلسطينية باللطم والعويل، فإن السؤال الذي ينبغي أن تجيب عليه: ومتى لم تكن أميركا أصلا منحازةً لصالح إسرائيل؟ إنه السؤال الذي يعرف الجميع إجابته، بما في ذلك القيادة التي تغابت دوماً، وكأنها مصدومة من ذلك الانحياز.
وفي سياق النسق المنحاز أميركياً لصالح إسرائيل، فإن الرسالة الثانية التي بعث بها فريق ترامب الانتقالي، مفادها بأن الأخير قد يُقدم فعلاً على ما لم يقم به من سبقه من رؤساء، وهو نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس. فمنذ إقرار الكونغرس قانون نقل السفارة الأميركية إلى القدس عام 1995، متجاوزاً معارضة الرئيس حينها، بيل كلينتون، لم يجرؤ رئيسٌ أميركي على فعل ذلك، وتحصنوا دوماً وراء بندٍ في القانون يتيح للرئيس تعطيل القرار ستة أشهر إذا ما رأى في ذلك مصلحةً قومية أميركية. التعطيل الأخير أوقعه أوباما أواخر الشهر الماضي، وينتهي أواخر مايو/أيار 2017، ويبدو أن ترامب لن يجدّده. وبعيدا عن تحذيرات "كبير المفاوضين" الفلسطينيين، صائب عريقات، إن هذا القرار، إن أمضي، "سيدمر عملية السلام برمتها"، فإن هذه القيادة التي رهنت كل أوراقها للأميركيين لا تملك هوامش مناورة واسعة، فوجودها هي نفسها مرتبط بالقبول بالسقوف الأميركية - الإسرائيلية، لا بتحديها والتمرد عليها.
الرسالة الثالثة غير المبشرة من إدارة ترامب تمثلت بمرشحها لمنصب السفير في الدولة
باختصار، واضح أن سنوات ترامب ستكون، على الأغلب، عصيبةً على أميركا والعالم، بما في ذلك على الشرق الأوسط وفلسطين، غير أنه في السياق الفلسطيني، كانت السياسات الأميركية دوما عصيبة، وكل ما في الأمر أنه تتفاوت درجة الحدية والصعوبة بين إدارةٍ وأخرى. كانت أميركا الرسمية دوما منحازةً لإسرائيل، وستبقى دومًا منحازة. ليست هذه المشكلة الحقيقية بقدر ما أن المشكلة هي في قيادة رسمية فلسطينية تمارس التغابي في تعاملها مع هذه الحقيقة.