لا يزال المجتمع العلمي في العالم العربي أسير دائرته الضيقة، ما يجعل من النجاحات العالمية مجال التحرّك الوحيد تقريباً للمشتغلين في العلوم. تلك الحلقة المفقودة، أو القطيعة ربما، بين الحياة العامة العربية والعلماء تفسّر شيئاً من واقع الثقافة العربية.
هكذا يكون من الصعب تقديم الشخصيات العلمية العربية إلى أبناء المنطقة أبعد من أسمائها، إلا من أسعفته الأضواء الإعلامية لسبب من الأسباب. وضع تبدو معه سيرة العلم العربي المعاصر سيرة منفى وغربة بامتياز.
في نيويورك، رحل الأحد الماضي عالم الرياضيات التونسي عباس بحري (1955 - 2016). رغم المسافات البعيدة، وتقدم البحوث التي يشتغل عليها، عُرف عن الراحل قربه من الجامعة التونسية، ومن أجواء الثقافة في بلاده، وهو ما يفسّر صدى خبر رحيله رغم قلة شهرته في تونس.
تخصّص بحري في مجاليْ التحليل الوظيفي والهندسة التفاضلية، وحاول إفادة كل مجال من الآخر. لعل أبرز مساهماته وضع منهجية في حساب التنويعات والتي أطلق عليها تسمية "منهج النقاط الحرجة في اللانهائي"، وهي إضافة وجدت تقديرها في أوساط الرياضيات في العالم، ما مكّنه من الحصول على إحدى أبرز جوائزه، "جائزة فيرما"، في 1989 مناصفة مع الأميركي كينيث آلان ريبي.
قد تبدو المجالات التي يشتغل ضمنها بحري بعيدة عن المتداول العام، ولكننا حين نسحب منها لغتها العلمية الدقيقة سنجد أنها قريبة من معطيات الحياة العادية. فالمنحنيات التي تعترضنا بكثرة في علوم التحليل كتجسيم للدوال، تمثل في النهاية نفس الأشكال التي تصادفنا كل يوم، غير أنها في إطارها الرياضي قد اتخذت لغة جديدة أكثر تجريداً وصرامة علمية.
هذا الارتباط الخفي بين عالميْ التجريد الرياضي والواقع نلمسه بوضوح في مجال حساب التنويعات الذي قدّم فيه بحري مساهماته، إذ إن أبرز قضية فيه هي ما يعرف "مشكل الملكة ديدون"، حيث يجري البحث عن معادلة المنحنى الذي يمكنه حين ينغلق أن يغطي أكبر مساحة ممكنة.
ليست هذه القضية سوى سؤال رياضي يصوغ أسطورة تأسيس قرطاج، وللمصادفة أنها وقعت في نفس بلد عباس بحري. تقول الأسطورة إن الأميرة الفينيقية عليسة (ديدون في المدونة الأوروبية) استعملت جلد ثور لتأسيس المدينة.
كانت قوانين السكان الأصليين لشمال أفريقيا تقتضي عدم بيع قطعة أرض إلا بحجم جلد ثور، هنا قصّت عليسة الجلد في شكل شريط لتحد به أكبر مساحة ممكنة، وهناك أسست مدينة قرطاج.
خلال النهضة الأوربية، ظهرت بوادر التفكير في ما سيسمّى لاحقاً بحساب التنويعات، كان أبرز العلماء في هذا المجال عالم الرياضيات السويسري جان برنووي (1667 - 1748) في إطار محاولة إيجاد حلول لقضايا طرحها غاليلي وبقيت دون حل، وكان لصياغتها الرياضية أثر إيجابي على مسار العلوم حيث سيلتقطها نيوتن ولايبنيتز لتطوير نظريات التفاضل، القاعدة الصلبة للرياضيات الحديثة، والتي ستضع الكثير من التحديات أمام العلماء لعل "منهجية النقاط الحرجة" إحدى المساهمات القوية في تجاوزها.
غادر بحري بلاده في التاسعة عشرة، حيث واصل تعليمه في فرنسا ودرّس فيها قبل أن يستقر منذ 1987 في الولايات المتحدة الأميركية ليشغل كرسي أستاذ في "جامعة روتجرز"، ويدير "مركز التحليل اللاخطي".
خلال مسيرته، نشر بحري خمسة مؤلفات باللغة الإنجليزية أهمها "شبه مدارات لأشكال التلامس" (1987) و"خطوط التدفق والثوابت الجبرية في هندسة أشكال التلامس" (2003) و"النقاط الحرجة في اللانهائي من خلال مشاكل التنويعات" الذي قدّم فيه نظريته.
قد يبدو البحث في اللانهائي حاد التباين مع واقع عربي يجري تفكيك أبجدياته، وتعود فيه فئات في المجتمع إلى الهامش المعرفي، بفعل السياسات التعليمية أو التهميش الاجتماعي. لذلك، إلى اليوم وللأسف، لا يمكن تفسير النجاحات العلمية العربية إلا بعوامل فردية، وقد ينسحب ذلك على كل النجاحات.