كلامٌ كثيرٌ يُقال في شادية، منذ رحيلها مساء 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017.
فسيرتها، الموزّعة على حياة يومية وأعمالٍ فنية عديدة، صالحةٌ لنصوصٍ تبدأ من حضورها في المشهد المصري، وانتشارها في عالمٍ عربيٍّ، في لحظة بحثه عن منافع التبدّلات الملتبسة (إنْ تنوجد المنافع)، وتكاد لا تنتهي عند اعتزالها منذ منتصف ثمانينيات القرن الـ20.
ونتاجها مفتوحٌ على تساؤلات، تميل إلى سجالٍ نقديٍّ، يصعب حسم أجوبته، أو تذهب إلى خصوصية عيشٍ، وحميمية قراراتٍ تُبعدها عن راهن متبدِّل ومرتبك، أو تجعلها تتأمّل انقلابات مريرة، بصمتٍ واغتراب؛ أم أنّ العزلة نتاجُ إلحاح ذاتيّ على الافتراق عن كلّ شي، وكلّ أحد؟
وصوتها، غناءً أو بوحاً يُبهران ويجذبان، سببٌ للتماهي بها، لكونه مفتاح توغّلٍ في عالمها، وتفاصيل اشتغالها، وحساسية نبرتها.
أما أداؤها، المتراوح بين روعةِ إطلالةٍ وبهاءِ حركةٍ وبساطةِ تمثيلٍ، فينسحب سريعاً أمام جمالٍ، يدعو إلى اختبار أعماق حالةٍ، "ممنوعة" على الانكشاف الكامل، كي يصنع سحرُ الغموض معنى العلاقة بها.
قبل يومين على انتهاء الدورة الـ39 (21 ـ 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2017) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي"، المهداة إليها، يتحوّل نبأ رحيلها إلى منفذٍ مفتوحٍ على حكايات وسرديات ومواقف وذكريات. لكن الأشدّ إلحاحاً كامنٌ في محاولة التنبّه إلى الحدّ شبه المختفي بين تمثيلٍ وغناء، يمارسهما جيل من مطربي المرحلة الأكثر حساسية في التاريخ الحديث لمصر وللعالم العربي. فشادية قادمة إلى التمثيل من ميلٍ إلى الغناء، بدءاً من التقليد، إنْ يكن تقليد الشقيقة الكبرى، الراغبة في احتراف الغناء قبل الانسحاب منه نهائياً، أو تقليد ليلى مراد، كما يُقال عن طفولة شادية، المولودة في 8 فبراير/ شباط 1931 باسم فاطمة أحمد كمال. وهذا وحده كافٍ لتفسير طبيعة واقع، وبساطة عيشٍ، وحيوية حراكٍ عفويّ سيصنع، لاحقاً، فصلاً جميلاً لقولٍ وانفعال.
فالزمن شاهدٌ على بدايات تفوّق الشاشة الكبيرة، والتمثيل مدخلٌ إلى تمتين علاقة عفوية بين فنان ومريديه، والظهور أمام الكاميرا أداة تفعيل لارتباط ـ انفعالي وحميمي ـ بين صوتٍ يُطْرِب المستمع إليه، وصورة صاحب الصوت، فإذْ بالمستمع يُصبح مُشاهِداً، وإذْ بثنائية الاستماع ـ المُشاهَدة، الحاضرة في شخصٍ واحد، تتحوّل إلى نمط حياة، وسلوك عيشٍ، وتفاعل عشق.
أي أن الرغبة في كشف صورة المغنّي/ المغنيّة أمام مستمعين مأخوذين بنبرة صوتٍ، وبحّة وتر، وجمالية نصٍ، ورهافة لحنٍ؛ تلك الرغبة نفسها عاملٌ جوهريّ يدفع إلى جمع الغناء بالتمثيل، كي يتمكّن عاشق الصوت من أن يتعرّف إلى شكل صاحبه. لكن، في مقابل هذه الفرضيّة، هناك ما هو عمليٌّ: حاجة السينما إلى نوعٍ فني مختلف لسرد الحكايات، وإلى صناعةٍ تُدرُّ أرباحاً.
تُرى، هل ينبثق هذا كلّه من وعي شادية بأهمية التمثيل والغناء معاً، في لحظة تبدّلات كبيرة، يعيشها الفن والثقافة والسياسة والاقتصاد والاجتماع؟
لن تكون أية إجابة ضرورية أو شافية، فالحكاية معروفة: انخراطٌ في التمثيل، يؤدّي إلى ارتباط فني بزملاء مهنة، وتمكّن عمليّ من التوغّل في أعماق الاجتماع ـ المصري والعربي ـ عبر الصوت والصورة معاً. فشادية، الناشطة في التمثيل والغناء بين عامي 1947 و1984، غير مختلفة عن مناخٍ عامٍ، يسود في مرحلةٍ تبدأ عشية الانقلاب على الملكية المصرية (1952)، وتستمرّ في أحلك الظروف، في السياسة والاقتصاد والمكانة الدولية لمصر، وصولاً إلى منتصف الثمانينيات تلك، التي تُشكِّل لحظة من لحظات الانهيار المتنوّع، في الفنّ وأنماط العيش.
لكن، وفي مقابل كل شيء، ومن أجل كل شيء أيضاً، يُمكن وصف مسار شادية بما يلي: "مالِكَة النجومية في زمن الثورة (1952)، وعاشِقَة العزلة في زمن المصائب، ومُغادِرَة الحياة في زمن الالتباسات". أليست هذه صورة عن أحلامٍ موءودة ورغباتٍ معطّلة، تختصرها سيرة امرأة واحدة، تُصبح أغنيتها "يا حبيبتي يا مصر" أحد أناشيد "ثورة 25 يناير" (2011)؟
اقــرأ أيضاً
ونتاجها مفتوحٌ على تساؤلات، تميل إلى سجالٍ نقديٍّ، يصعب حسم أجوبته، أو تذهب إلى خصوصية عيشٍ، وحميمية قراراتٍ تُبعدها عن راهن متبدِّل ومرتبك، أو تجعلها تتأمّل انقلابات مريرة، بصمتٍ واغتراب؛ أم أنّ العزلة نتاجُ إلحاح ذاتيّ على الافتراق عن كلّ شي، وكلّ أحد؟
وصوتها، غناءً أو بوحاً يُبهران ويجذبان، سببٌ للتماهي بها، لكونه مفتاح توغّلٍ في عالمها، وتفاصيل اشتغالها، وحساسية نبرتها.
أما أداؤها، المتراوح بين روعةِ إطلالةٍ وبهاءِ حركةٍ وبساطةِ تمثيلٍ، فينسحب سريعاً أمام جمالٍ، يدعو إلى اختبار أعماق حالةٍ، "ممنوعة" على الانكشاف الكامل، كي يصنع سحرُ الغموض معنى العلاقة بها.
قبل يومين على انتهاء الدورة الـ39 (21 ـ 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2017) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي"، المهداة إليها، يتحوّل نبأ رحيلها إلى منفذٍ مفتوحٍ على حكايات وسرديات ومواقف وذكريات. لكن الأشدّ إلحاحاً كامنٌ في محاولة التنبّه إلى الحدّ شبه المختفي بين تمثيلٍ وغناء، يمارسهما جيل من مطربي المرحلة الأكثر حساسية في التاريخ الحديث لمصر وللعالم العربي. فشادية قادمة إلى التمثيل من ميلٍ إلى الغناء، بدءاً من التقليد، إنْ يكن تقليد الشقيقة الكبرى، الراغبة في احتراف الغناء قبل الانسحاب منه نهائياً، أو تقليد ليلى مراد، كما يُقال عن طفولة شادية، المولودة في 8 فبراير/ شباط 1931 باسم فاطمة أحمد كمال. وهذا وحده كافٍ لتفسير طبيعة واقع، وبساطة عيشٍ، وحيوية حراكٍ عفويّ سيصنع، لاحقاً، فصلاً جميلاً لقولٍ وانفعال.
فالزمن شاهدٌ على بدايات تفوّق الشاشة الكبيرة، والتمثيل مدخلٌ إلى تمتين علاقة عفوية بين فنان ومريديه، والظهور أمام الكاميرا أداة تفعيل لارتباط ـ انفعالي وحميمي ـ بين صوتٍ يُطْرِب المستمع إليه، وصورة صاحب الصوت، فإذْ بالمستمع يُصبح مُشاهِداً، وإذْ بثنائية الاستماع ـ المُشاهَدة، الحاضرة في شخصٍ واحد، تتحوّل إلى نمط حياة، وسلوك عيشٍ، وتفاعل عشق.
أي أن الرغبة في كشف صورة المغنّي/ المغنيّة أمام مستمعين مأخوذين بنبرة صوتٍ، وبحّة وتر، وجمالية نصٍ، ورهافة لحنٍ؛ تلك الرغبة نفسها عاملٌ جوهريّ يدفع إلى جمع الغناء بالتمثيل، كي يتمكّن عاشق الصوت من أن يتعرّف إلى شكل صاحبه. لكن، في مقابل هذه الفرضيّة، هناك ما هو عمليٌّ: حاجة السينما إلى نوعٍ فني مختلف لسرد الحكايات، وإلى صناعةٍ تُدرُّ أرباحاً.
تُرى، هل ينبثق هذا كلّه من وعي شادية بأهمية التمثيل والغناء معاً، في لحظة تبدّلات كبيرة، يعيشها الفن والثقافة والسياسة والاقتصاد والاجتماع؟
لن تكون أية إجابة ضرورية أو شافية، فالحكاية معروفة: انخراطٌ في التمثيل، يؤدّي إلى ارتباط فني بزملاء مهنة، وتمكّن عمليّ من التوغّل في أعماق الاجتماع ـ المصري والعربي ـ عبر الصوت والصورة معاً. فشادية، الناشطة في التمثيل والغناء بين عامي 1947 و1984، غير مختلفة عن مناخٍ عامٍ، يسود في مرحلةٍ تبدأ عشية الانقلاب على الملكية المصرية (1952)، وتستمرّ في أحلك الظروف، في السياسة والاقتصاد والمكانة الدولية لمصر، وصولاً إلى منتصف الثمانينيات تلك، التي تُشكِّل لحظة من لحظات الانهيار المتنوّع، في الفنّ وأنماط العيش.
لكن، وفي مقابل كل شيء، ومن أجل كل شيء أيضاً، يُمكن وصف مسار شادية بما يلي: "مالِكَة النجومية في زمن الثورة (1952)، وعاشِقَة العزلة في زمن المصائب، ومُغادِرَة الحياة في زمن الالتباسات". أليست هذه صورة عن أحلامٍ موءودة ورغباتٍ معطّلة، تختصرها سيرة امرأة واحدة، تُصبح أغنيتها "يا حبيبتي يا مصر" أحد أناشيد "ثورة 25 يناير" (2011)؟