رحلة كيم إلى البنك الكبير

12 يونيو 2014

رئيس البنك الدولي جيم جونغ كيم (إبريل/2014/Getty)

+ الخط -
ولد جيم جونغ كيم في سيول في الخمسينات. كان سيصبح مثل أيّ كوريّ جنوبيّ آخر، لولا أنّ أباه لم يقرر الهجرة المبكرة إلى الولايات المتحدة، عندما كان نجله في الخامسة. هناك، انكبّ كيم على الدراسة باجتهاد كبير، فتفوّق على أقرانه، على الرغم من أنّه يمكن القول، وبأمانة، إنّه ترعرع كأيّ شاب أميركي آخر من الطبقة الوسطى البيضاء "الوثيرة". أهّله تفوّقه الدراسي للدخول إلى جامعة هارفارد لدراسة الطبّ، فاختبر شتى أوجه الحياة الجامعية والسياسية، بصخبها الشديد في السبعينيات. خرج في تظاهرات الطلاب ضدّ حرب فيتنام، وساند مارتن لوثر كينغ وحركة الحقوق المدنية. كان كيم حينها "راديكاليّاً" أميركياً بكل جوارحه.
بقي الأمر كذلك، إلى أن صار لزاماً عليه، في أحد الصفوف، قراءة رواية "كيم"، للكاتب البريطاني رُديارد كِبلِنغ. ما لم يعرفه كيم أنّ تلك الرواية التي جذبه إليها، في البداية، اسم عائلته فيها عنوانها، كان مقدّراً لها أن "تشقلب" أفكاره عن العالم رأساً على عقب، بل يمكننا أن ندّعي، بثقة، أنّ شخصية كيم أوهارا في رواية كِبلِنغ شكّلت مثالاً أعلى له. تخبرنا الرواية الشيّقة عن هذا اليتيم الذي عاش في شبه الجزيرة الهندية، إبان الاستعمار البريطاني. كان كيم ذا الأصول الإيرلندية، والذي ترعرع معدماً في شوارع لاهور، يبدو للآخرين هنديّاً بإقناع. سيتعرّف على اللاما، المعلّم الذي سيتبناه، ويسافر معه من أجل خلاص روحي، من أوّل الهند إلى آخرها. لكن، ما سيحدث في الطريق أن الاستخبارات البريطانيّة ستجنّده في حربها مع مثيلتها الروسيّة، بعد معرفتها بأصوله الإيرلندية. يقوم كيم حينها برحلة مزدوجة موازية لذاته المزدوجة: هويّة "هندية" ستعيش رحلة "خلاص روحي" مع اللاما، وهويّة أخرى تتبع المركز الإمبريالي، وتخدم المشروع السياسي البريطاني في حروبه الجاسوسيّة. وعلى الرغم من أنّ كيم يبقى صديقاً لمعلّمه اللاما، إلّا أنه يختار، في النهاية، الوفاء لهويته الإمبريالية البريطانيّة، قائلاً لمعلّمه: "أنا لست "صاحب" (أيّ هندي)، لكنني سأبقى دائماً "تشيلا" لديك (أي سأبقى تلميذاً دائماً)".
فُتن جيم يونغ كيم، لدى قراءته الرواية، بكيم أُوهارا، فقرّر أن يكفّ عن معارضته سياسة حكومة بلاده، ليصبح أكثر واقعية، فهو يستطيع أن يحتفظ بهويتين معاً، تماماً كما فعل كيم أوهارا: أن يبقي على "خلاص روحي"، عبر هويّته المشكّلة من أصولٍ كورية، وفي الوقت نفسه، يبقي على هويّة أميركيّة فاعلة في المشروع الأميركي. تخرّج كيم من جامعة هارفارد طبيباً في أوائل التسعينات، وحاز، أيضاً، على الدكتوراه في الأنثربولوجيا. ولمَن لا يعرف، الأنثربولوجيون متخصصون في فهم المجتمعات الأخرى ودراستها، والتي تكون مستعمرة. هؤلاء كانوا، (وما زالوا)، أداةً تقليدية للمساعي الإمبريالية الأوروبية، ثمّ الأميركيّة، لإنتاج المعرفة عن الآخر والتلاعب بثقافته، بهدف تقويض أيّ مقاومة لها. بعد ذلك، تبوّأ كيم عدة مناصب مهمة، بصفته أنثربولوجيّاً، ومنها، أخيراً، أن يكون الرئيس الثاني عشر للبنك الدولي، باختيار رئيس الولايات المتحدة الأميركية، باراك أوباما.

قبل أيّام، زار كيم لبنان، وهي أوّل زيارة لرئيسٍ للبنك الدولي إلى هذا البلد الصغير منذ 14 عاماً. عرف الرجل، بصفته رئيس المؤسسة المركزية لضبط هيمنة رأس المال في العالم، أن مهمّة إعطاء وصفات نيوليبرالية لن تكون صعبة. ومن خبرته الأنثربولوجية الواسعة، فهم، بسرعة، أنّ لبنان يمرّ بأزمة قاتلة، تتحلّل فيها كل مظاهر الدولة وفكرة القانون والحقّ والعدل. فالمجتمع الذي زاره لا يملك مجلساً نيابياً ممدّداً له بشكل دستوري، ولا حتّى رئيس جمهورية، ولم تقم له أية موازنة مالية عامّة منذ سبع سنوات، والأنكى أنّ سكانه لا يبدو أنهم يقاومون بفاعلية. وكم بُهت كيم لعلمه أنه ليس في هذا البلد اقتصاد حقيقي منتج، عدا بنوك وسوق عقارات! والأمر دائرة مقفلة قائمة على تصدير بشر، واستيراد كلّ شيء آخر، مع أعلى نسبة استهلاك في العالم. فكّر كيم، بنفسه، أنّ لبنان ليس سوى بلد بحجم بنكٍ كبير، تسيطر عليه طبقة حاكمة موروثة من أمراء حرب أهليّة، ورجال ميليشيات سابقين، مرتهنين لقرارات دول أجنبية مختلفة، يريدون نهب كلّ شيء بالخصخصة، من كهرباء ومياه، وصولاً إلى الهواء لو استطاعوا. دُهش من ذلك كله، وشعر بحزن على ما سيحلّ باللبنانيين قريباً، إذ حكامهم متفقون، ضمنيّاً، على تمرير ذلك كله، على الرغم من مسرحيات الخلافات العابرة في ما بينهم، وفهم أنّهم يلتمسون مساعدته في تحقيق مرادهم. لكنّه، وعلى الرغم من حزنه، التقط كلمة السرّ من حكّام البلاد، وكانت "كيفية معالجة خطر النازحين السوريين".
بالفعل، هلّلت الطبقة الحاكمة في لبنان لكيم في إعلامها، وصوّرته رجلاً يمتلك العصا السحرية، من أجل "تخليص" الناس من "خطر النازحين السوريين". وفيما كان الجميع يسأل عن كيفية معالجة البِطالة التي قال إنها باتت تفوق نسبة 20%، دأب كيم على ترديد رقمٍ أفزع اللبنانيين جدّاً، هو أنّ النازحين "أضاعوا على البلاد 7.5 مليارات دولار". لكنه، وبمعاونة تلامذة لبنانيين للبنك الدولي، طمأن الجميع أنّ الحل إنّما سيكون بتنفيذ وصفاته التي لا تخطئ: بيعوا كلّ شيء! دمروا آخر معلم من معالم وجود بلدكم، لتحصلوا على "تنمية مستدامة"، لأنّ بضعة مصرفيين ومترسملي العقارات سوف يستولون على آخر ما تبقى من حقوقٍ لكم، في "قطاعات الطاقة والنقل والمواصلات".
الأدهى أن كيم لم يكن يهتم فعلاً بمسألة النازحين السوريين، ولم يعرف لماذا اعتبره الجميع في لبنان مختصاً بذلك. فبوصفه أنثربولوجيّاً محترفاً في عمله، كان يهمه فقط تنفيذ مهمة البنك، لحلّ أيّة مقاومة تعترض وحش النيوليبرالية، ولو تمّ الأمر بكذبة "بيضاء!"، أساسها التلاعب بمخاوف وهواجس شعوبٍ تُباد وتُهجّر بأكملها. صحيح أنّه ابن مهاجر كوري، وأنه زعم أنّ ذلك جعله "يفهم معاناة النازحين السوريين"، كما قال عندما لعب، دقائق، مع أطفال نازحين سوريين على التلفاز، مع أنّه يصعب وصف طفولته في الولايات المتحدة بأنها كانت "معاناة"، لكنّه، وهو يزور هذا البلد بحجم البنك، لم ينفك يتذكر صورة بطله كيم أوهارا المنقوشة في وجدانه. "لست "بصاحب"، لكنني سأبقى دائما "تشيلا" لديك". قد يحزن الأنثربولوجي لمصير مجتمع مستعمر، لكن ولاءاته لا يمكن أن تتغيّر.